عندما تتأمل بحديث " وحدثوا عن
بني إسرائيل ولا حرج " فلا شك أن المعنى التلقائي الذي تفهمه هو إباحة الحديث
المفتوح عنهم بكل ما عندهم من غرائب وعجائب وربما أباطيل وأكاذيب ، وأكثر ذلك ما
يورده المفسرون والإخباريون من قصصهم الغريبة الباطلة في أرض فلسطين ، فيثبتون
للصهاينة ما لم يستطيعوا إثباته في مجالات الجغرافية والتاريخ والآثار بما يؤكد
مقولتهم الكاذبة في أحقيتهم بأرض فلسطين بمنطق التاريخ .
ولذلك الفهم التلقائي أخذ العلماء بظاهر هذا
الحديث وأباحوا الرواية مطلقاً عنهم معلّلين ذلك بأنه للعبرة من قصص الأقدمين ؛ بل
إن بعضهم جعل معنى قوله " ولا حرج " أي لا ضيق عليكم ولا إثم بترك
الحديث عنهم ، وكأن الرواية عنهم باتت فضيلة واجبة يفوّتها المرء بترك معرفتها بل
ونشرها.
وقبل أن أقف على معنى الحديث فلننظر
معاً إلى ما قاله ترجمان القرآن وحبر الأمة عبد الله بن عباس في هذا الشأن ،
ونحاول أن نفهم هذا الحديث على ضوء تفسير ابن عباس ، يقول : (كيف تسألون أهل
الكتاب عن كتبهم، وعندكم كتاب الله أقرب الكتب عهداً بالله، تقرؤونه محضاً لم
يُشب). رواه البخاري ؛ وفي رواية أنه قال: " يا معشر المسلمين، كيف تسألون
أهل الكتاب عن شيء، وكتابكم الذي أنزل الله على نبيكم أحدث الأخبار بالله محضاً لم
يُشب، وقد حدثكم الله أن أهل الكتاب قد بدّلوا من كُتُب الله وغيّروا، فكتبوا
بأيديهم قالوا: هو من عند الله ليشتروا بذلك ثمناً قليلاً، أوَلا ينهاكم ما جاءكم
من العلم عن مسألتهم؟ فلا والله، ما رأينا رجلاً منهم يسألكم عن الذي أُنْزِلَ
عليكم". رواه البخاري
ويشرح ابن عباس معنى كلامه بتفصيل أوضح
في الرواية الأخرى التي أوردها ابن أبي شيبة في مصنفه عن ابن عباس : لاَ
تَسْأَلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ عَن شَيْءٍ فَتُكَذِّبُوا بِحَقٍّ ، أَوْ
تُصَدِّقُوا بِبَاطِلٍ ، فَإِنَّهُمْ لَنْ يَهْدُوكُمْ ، وَيَضِلُّونَ
أَنْفُسَهُمْ ، وَلَيْسَ أَحَدٌ مِنْهُمْ إلاَّ فِي قَلْبِهِ تَالِيَةٌ تَدْعُوهُ
إلَى دَيْنِهِ كَتَالِيَةِ الْمَالِ.
بل ورد النهي المباشر عن كتابات أقاصيص
اليهود : عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ أَتَاهُ عُمَرُ، فَقَالَ: إِنَّا نَسْمَعُ أَحَادِيثَ
مِنْ يَهُودَ تُعْجِبُنَا، أَفَتَرَى أَنْ نَكْتُبَ بَعْضَهَا، فَقَالَ:
«أَمُتَهَوِّكُونَ أَنْتُمْ كَمَا تَهَوَّكَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى، لَقَدْ
جِئْتُكُمْ بِهَا بَيْضَاءَ نَقِيَّةً، وَلَوْ كَانَ مُوسَى حَيًّا مَا وَسِعَهُ
إِلا اتِّبَاعِي» رواه أحمد
وانظروا إلى كلام رسول الله فيما رواه
أبو داود (ما حدثكم أهل الكتاب فلا تصدقوهم ، ولا تكذبوهم ، وقولوا : آمنا بالله
ورسله ، فإن كان باطلا لم تصدقوه ، وإن كان حقاً لم تكذبوه ) .
وروى البزار بإسناد حسن عن خباب أن
النبي صلى الله عليه وسلم قال : ' إن بني إسرائيل لما ضلوا قصوا '
يقول الإمام مالك: (المراد جواز التحدث
عنهم بما كان من أمر حسن أما ما علم كذبه فلا ) وقيل المعنى: حدثوا عنهم بمثل ما
ورد في القرآن والحديث الصحيح كما ذكر ابن حجر العسقلاني في فتح الباري.
والإمام الشافعي فهم رواية الحديث
الأخرى التي نصُّها "حدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج وحدثوا عني لا تكذبوا
علي" على أن المرويات عن بني إسرائيل أكثرها كذب لا يوثق به ، وأنها في حكم
المنتهي العمل به والتعبد به إذ ( ليس في الحديث عنهم ما يقدح في الشريعة ولا يوجب
فيها حكما ) لأنها حتى لو حوت ما يقدح في الشريعة فلا اعتبار بها أو لها أصلا ،
لأن الحديث عنهم ( ليس ديانة ) فهي لا تفيد العلم ولا البيان الشرعي .
يقول الشافعي في الرسالة : (وهذا أشدُّ
حديثٍ رُوِيَ عن رسول الله في هذا، وعليه اعْتَمدنا مع غيره في أنْ لا نقبَلَ
حديثًا إلاَّ مِنْ ثِقة، ونعْرِفَ صدقَ مَنْ حَمَلَ الحديثَ مِن حينِ ابْتُدِئَ
إلى أن يُبْلَغَ به مُنْتَهَاه... قد أحاط العلم أن النبي لا يأمر أحداً بحال
أبداً أن يكذب على بني إسرائيل، ولا على غيرهم، فإذ أباح الحديث عن بني إسرائيل أن
يقبلوا الكذب على بني إسرائيل أباح، وإنما أباح قبول ذلك عن من حدَّث به ممن يُجهل
صدقه وكذبه. ولم يُبِحْه أيضاً عن من يُعرف كذبه لأنه يُروى عنه أنه "مَن
حدَّث بحديث، وهو يُرَاه كذباً فهو أحد الكاذِبَين " ومَن حدَّث عن كذاب لم يبرأ من الكذب؛ لأنه يرى
الكذاب في حديثه كاذباً ...)
وإزاء
هذه الأحاديث الواضحة في توضيح معنى "حدثوا ... ولا حرج " يتحدث الإمام
ابن بطّال شارح صحيح البخاري بلغة الواثق العارف ، يقول ابن بطال في شرح كلام ابن
عباس: ( لا تسألوا أهل الكتاب عن شئ )
إنما هو فى الشرائع ، لا تسألوهم عن شرعهم فيما لا نعرفه من شرعنا لنعمل به ؛ لأن
شرعنا مكتف ، وما لا نص فيه عندنا ففى النظر والاستدلال ما يقوم الشرع منه . وأما
سؤالهم عن الأخبار المصدقة لشرعنا ، وما جاء به نبينا ( صلى الله عليه وسلم ) من
الأخبار عن الأمم السالفة فلم ننه عنه .
ولكنك عندما تورد الحديث كاملاً في
سياقه سينكشف لك معنى آخر مختلف ينسف المعنى التلقائي أعلاه ، فالحديث كاملاً :
" بلِّغوا عني ولو آية ، وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج ، ومن كذب عليّ
متعمداً فليتبوأ مقعده من النار " وهو حديث صحيح ، ولنَعُدْ
إلى قراءة الحديث ثانية مراعين الجمل المتعاطفة وسياق الحديث كله:
"بلغوا عني ولو آية " : أمر
بالبلاغ لكل وحيٍ صدر عنه حتى لو كان آية من القرآن في تحدي أدنى نصوص القلة ،
وهذا البلاغ يجب أن يكون صادراً عنه – صلى الله عليه وسلم - حتى يصحّ البلاغ به ،
وأي خبر إسرائيلي لم يصدر عنه فنحن لسنا مأمورين بإبلاغه .
"وحدثوا عن بني إسرائيل
ولاحرج" أي حدثوا عني ما أبلغتكم به عنهم – على سبيل الإباحة والجواز لا
الوجوب - ، ولا حرج عليكم في ترك الحديث عنهم مما أبلغتكم به .
" ومن كذب عليّ متعمداً فليتبوأ
مقعده من النار " أيّ كذبٍ على رسول الله جزاؤه النار ، لأنه تدخّلٌ في مصدر
التشريع ، وأي كذب في النقل عنه يتعرض صاحبه لعقوبة شديدة .
وهذا التشنيع في عقوبة الكذب ربما كانت
لردع المتساهلين في نسبة المرويات عن الإسرائيليين إلى رسول الله ، حيث إن رسول
الله كان يكثر الحديث عنهم على سبيل نقل تجربة الأمم السابقة التي نزل عليها كتابٌ
، ولبيان حقيقة الإيمان الذي جاء به الرسل إلى بني إسرائيل وحقيقة المواقف
الإسرائيلية من دعوة الرسل ، لاسيما أن اليهود كانوا جيران المسلمين في المدينة ،
وكانوا في الوعي الشعبي العربي الأمّيّ قبل الإسلام هم أهل الكتاب السماوي
والإيمان الربّاني وفق ما يقولونه عن أنفسهم ، ومعرفتهم بالكتب والأخبار القديمة
المدونة في كتبهم .
بعد ذلك نقول: لا تحل رواية الأخبار
الإسرائيلية إلا بموجب نقل صادق أمين صحيح مسند إلى رسول الله ، وأما غير ذلك فهو
حديث خرافة وأسطورة تدرس فقط ضمن الدراسات الشعبية والفلكلور التراثي للأمم
السابقة .
بعد ذلك نقول: لا تحل رواية الأخبار الإسرائيلية إلا بموجب نقل صادق أمين صحيح مسند إلى رسول الله ، وأما غير ذلك فهو حديث خرافة وأسطورة تدرس فقط ضمن الدراسات الشعبية والفلكلور التراثي للأمم السابقة
ردحذفأحسنت ياشيخ
ردحذفبارك الله فيك ..
ردحذف