من المشهور أن كبار علمائنا من السلف الأول
كانوا يمتنعون عن السلطة والقضاء ، ولا يحبون الاقتراب من حاشية السلطان ، وكانوا
يخشون من الفتنة بالسلطة واحتسابهم من أعوان السلطان .
في واقع الحال فإن هذا الواقع قد دفع بأنصاف
العلماء وعلماء السوء من أخذ مكانهم براحة إلى جوار السلطة دون منافسة وقاموا
بمهمة تمثيل الجانب الديني الاجتماعي لتبرير أفعال السلطة .
في التجارب القليلة المذكورة فإن حضور
العلماء المسيَّسين ذوي الرسوخ العلمي لدى السلطة السياسية قد وفّر لنا محطات
تاريخية ما زالت حاضرة الأثر، فرجاء بن حَيْوة وهو تابعي فلسطيني جليل كان إلى
جوار الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان وابنيه الخليفتين : الوليد وسليمان، كان
سبباً في تولية الصلحاء في مراكز سياسية متقدمة بل إ له الفضل الأكبر في إقناع
سليمان بن عبد الملك بتعيين عمر بن عبد العزيز في منصب الخليفة .
الإمام الشافعي رحمه الله خلافاً للأئمة
الثلاثة سعى للسلطة سعياً بل إنه طلب مساعدة أمه في رهن منزلهم للسفر في سبيل ذلك
، فاقترب من إدارة ولاية اليمن التي كانت تشمل مكة فعمل مع واليها حتى طار ذكرُه في
حسن الأداء وتمام الإنجاز، ثم تولّى نجران مدة عامين ، وقد تحدث الشافعي عن اختلاف
بعض التابعين في موقفه من السلطة فبعضهم انتقده وآخرون شجعوه ، وكان من جملة مَن
أثني عليه الإمام الجليل سفيان بن عيينة وكان تشجيعه مصحوباً بالتحذير من الثقة
بهؤلاء وهو ما كان في مرحلة لاحقة.
وهذا مقام آخر مهم يجدر ذكره فقد كان لمكانة
الإمام القاضي الفقيه محمد بن الحسن الشيباني صاحب أبي حنيفة لدى الخليفة هارون
الرشيد الدور الكبير في توفير مظلة حماية للشافعي ذي الثلاثين عاماً عندما حرّض
عليه والي اليمن واتهمه بموالاة العلويين ضد الدولة العباسية وحمله مقيّداً من
اليمن إلى بغداد .
لقد كان لتجربة الشافعي السياسية الأثر
البالغ في فقهه الواقعي، كما أن راتبه من عمله السياسي ساعده على تحسين وضعه
المعيشي ووضع أهله وتلاميذه ومنحهم فرصاً للتفرّغ العلمي مما ساعد على انتشار مذهب
الشافعي لكثرة تلاميذه وهو الأمر الذي لم يستطعه مجتهدون كبار من طبقته ومن طبقة
بعده .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق