الاثنين، 30 أكتوبر 2017

"يا ظلام السجن خيّم" حكاية مع نشيد خالد !


د. أسامة جمعة الأشقر

كنا في ثمانينيات القرن الماضي نبحث عمّا يرفع معنوياتنا في مواجهة الظلم والاستبداد السياسي، ونردد بحماسةٍ وقوة أناشيد الثبات، وما كنا نعلم حينها أن كثيراً من الأناشيد ذات الألحان القوية الراسخة كانت ليساريين أو قوميين اجتهد المنشدون حينها بتغيير بعض كلمات فيها لتتناسب مع أفكارنا الإسلامية الثائرة ، وقد كتبتُ في الماضي عن بعض هذه الأناشيد السائرة.
كان من أقرب الأناشيد إلينا، تلك التي تصوّر حياة إخواننا السابقين من الوطنيين الإسلاميين في معتقلات الحكّام الوحشية، وكان من أشهرها الأبيات:

يا ظلامَ السّـجنِ خَيِّمْ            إنّنا نَهْـوَى الظـلامَا
ليسَ بعدَ الليل إلا         فجـرُ مجـدٍ يتَسَامى
إيـهِ يا دارَ الفخـارِ         يا مـقـرَّ المُخلِصينا
قد هَبَطْنَاكِ شَـبَاباً          لا يهـابـونَ المنونا
و تَـعَاهدنا جَـميعاً         يومَ أقسَـمْنا اليَـمِينا
لنْ نخونَ العهدَ يوماً       واتخذنا الصدقَ دِيـنَا
أيها الحراس رِفـقـاً          واسمَعوا مِنّا الكَلاما
مـتّعُـونا بِـهَـواء       منعُـهُ كَـانَ حَرَاما
لـسـتُ والله نَسـيّاً          ما تقاسِـيه بِـلادِي
فاشْـهَدَنْ يا نَجمُ إنّي        ذو وفــاءٍ وَ وِدادِ
يا رنينَ القـيدِ زِدْني         نغمةً تُشـجي فُؤادي
إنَّ في صَـوتِكَ مَعنى       للأسـى والاضطهادِ
لم أكن يومًا أثيمًا          لم أخن يومًا نظاما
إنما حبّ بلادي           في فؤادي قد أقاما
كنت أسأل حينها عن قائلها، فكان بعضهم يقول لي إنها للشاعر الفلسطيني الشهيد الثائر عبد الرحيم محمود، بينما جزم لي آخرون أنها  أقدم من ذلك فقد وردت على لسان الشهيد محمد خليل أبو جمجوم عندما أبلغه مدير سجن عكا البريطاني هو ورفيقاه عطا الزير وفؤاد حجازي بقرار الإعدام فشرعوا في ترديد النشيد يا ظلام السجن خيم وتم تنفيذ حكم الإعدام فيهم صباح الثلاثاء 17/6/1930 .
بعد حينٍ رأيت بعض الصحافيين ينسب القصيدة للسياسي السوري الأديب عبد الرحمن الشهبندر في الأربعينيات، وإلى الشاعر الحموي السوري بدر الدين حامد ... ثم تبين لي لاحقاً أنها للأخ غير الشقيق لبدر الدين حامد وهو الصحفي السوري الحموي الشهير نجيب الريس المتوفى عام 1954م وهو مناضل وسياسي قوميّ عمل ضد الاحتلال الفرنسي وتجرّع مرارات السجن والتعذيب والإهانة والطرد والنفي، وأنه قال هذه الأبيات في محبسه في سجن جزيرة أرواد مقابل مدينة طرطوس السورية أواسط العشرينيات وهو ما كشف عنه نجيب الريس نفسه في كتابه "نضال"  .
الطريف أننا اكتشفنا بعد عقود أن هذه القصيدة لحنها محمد عبد الوهاب وغنّتها فيروز وصدحت بها فرقة العاشقين قبلنا، وكنا نظنها من إنتاج مدرستنا الإسلامية "الشاملة".

الطريف أكثر أنني كنتُ ألوم القومَ على انتحالهم أعمال الآخرين، ولا أخفي أيضاً عدم إعجابي بهذه القصيدة التي كتبها الفتى العشرينيّ، وأنها قصيدة تبجّل السلبية بطعم التحدي ولا تتجه للحياة رغم حماستها المفرطة، وكنتُ أقول إن لحنها الذي ينسبونه للملحن اللبناني محمد فليفل والذي اشتهر أكثر من لحن محمد عبد الوهاب هو الذي شهرها ورفع قيمتها إضافة إلى تحوّلها إلى شعار ثوريّ فيه تحدٍّ ظاهر... بعد حين تبيّن لي أن لحن محمد فليفل نفسه مسروق من نشيد عثماني قديم يتعلق بحصار مدينة بلِفْنا البلغارية خلال الحرب العثمانية الروسية 1877-1878م ... 


الخميس، 12 أكتوبر 2017

لقطات مثيرة من حياة ابن تيمية ومماته

رغم كثرة ما كتبه الناس عن ابن تيمية إلا أن السيرة الشعبية والاجتماعية والسياسية له قد تدفع الدارسين لمراجعة كثير مما نسبوه له استناداً إلى ما كتبه مجردين عن فهم البيئة التي تحيط به، والتي قد تقلب هذه المفاهيم السائدة .
جميع اللقطات المختارة التالية منقولة من كتاب" طبقات علماء الحديث" للحافظ أبي عبد الله محمد بن أحمد بن عبد الهادي الدمشقي الصالحي الحنبلي المتوفى عام 744هـ وهو تلميد ابن تيمية وأحدُ ملازميه :
-         اشتغل ابن تيمية بجهاد التتار وهم تسبب بهجرة أهله من حرّان إلى دمشق عندما كان صغيراً، وقد حرّض أمراء مصر والشام على القتال ووعظهم به وعظاً متصلاً، فكانوا يعتذرون له عن تقاعسهم ويشرحون له سبب عجزهم.
-         قام ابن تيمية بوظائف ميدانية خطيرة منها لقاؤه بقازان القائد العسكري للتتار بعد احتلاله لدمشق ، وكان قازان حينها قد أظهر إسلامه لكنه لم يكفّ عن القتل والنهب، ولكنه كان يطلب فتوى من العلماء بإباحة القتل والنهب لكون الناس من أعوان السلطان الظالم، وواجهه قائلاً: " أنت تزعم أنك مسلم ومعك قاض وإمام وشيخ ومؤذنون على ما بلغنا فغزوتنا، وأبوك وجدك هولاكو كانا كافرين، وما عملا الذي عملت؛ عاهدا فوفيا، وأنت عاهدت فغدرت، وقلت فما وفيت"، وخرج إلى مصر محرّضاً حكامها على الدفاع عن الشام من هؤلاء القتلة.
-         كانت مناظراته مع المخالفين بحضور ممثلين عن السلطة، وكان ظهوره عليهم يسجّل رسمياً بشهادات من علماء يحضرون هذه المجالس.
-         كانت مجالسه محل احترام  وتقدير من الدولة في مصر والشام ، وكان يحضر استقبالاته الرسمية قاضي القضاة وأكابر الدولة احتفاء به حتى في ظل مرافعاته التي يردّ فيها على مخالفيه في مسائل الصفات وكلامه في الاتحادية ومسألة الطلاق المشهورة.
-         كان يُسجَن أول الأمر في سجون القضاة وهو سجن قريب من السلطة والمحكمة وفي قلب البلد لفتح المجال لمحاورة الشيخ ومراجعته في تشكيكه بقوانين الدولة في باب الأحوال الشخصية وعقيدتها الرسمية، فقد سجن في سجن القضاة في القاهرة، ثم سجن في برج حسن في الإسكندرية ، وكان له وضع خاص في سجنه بقلعة دمشق.
-          رغم الموقف السالب منه فقد كان القضاة يطلبون منه تعليم أهل الحبس ما يلزمهم من أمور دينهم .
-         كان يُسمح لمن شاء بالدخول عليه والانتفاع به .
-         بتغيّر المواقف السياسية للدولة فقد كان يخرج من السجن فيستقبله السلطان وكبار رجال الدولة، وكان يعرض عليه السلطان الانتقام من العلماء الذين تسببوا بسجنه وكان يشاوره في قتلهم، فكان يمتنع عن ذلك ويعفو .
-         رافق الجيش المصري في غزوته للدفاع عن دمشق، وزار بيت المقدس في طريقه، وكان لسان الجيش وصوته ومفتيه .
-         كان له مجلس إفتاء كبير بعلم السلطة ودعمها.
-         بدأت مشكلات ابن تيمية مع القضاة والفقهاء الذين رفضوا تفرده في بعض مسائل العلم الثابتة في القوانين التي يحكمون بها في المحاكم "الشرعية" ، ثم توسعت مشكلاته بسبب شهرته الكبيرة في أوساط الخلق.
-         كان الشيخ يرفض تدخل الدولة في العلم وحسم الخلاف الفقهي بقرارات سلطانية فعندما تكلَّم في مسألة الحَلِف بالطَّلاق، أشار عليه بعض القُضَاة بتَرْك الإِفتاء بها ؛ فقَبل إشارته، ثم ورد كتاب السُّلْطان بعد أيام بالمَنْع من الفتوى عليها، ثم عاد الشيخ إلى الإِفتاء بها وقال: لا يَسَعُني كِتْمان العِلْم. وبقي كذلك مُدَّةً إلى أن حبسوه بالقلعة خمسة أشهر وثمانية عشر يومًا، ثم أُخرج، ورجع إلى عادته من الأشغال وتعليم العِلْم، ولم يزل كذلك إلى أن ظفروا له بجواب يتعلَّق بمسألة شَدِّ الرِّحال إلى قبور الأنبياء والصَّالحين، كان قد أجاب به من نحو عشرين سنة؛ فشنَّعوا عليه بسبب ذلك، وكَبُرَتِ القضية، وورد مرسوم السُّلْطان في شعبان من سنة ستٍّ وعشرين بجَعْلِهِ في القَلْعة
-         عندما سُجن في القلعة لم يتركوه في زنزانة قذرة بل "أُخليت له قاعة حسنة، وأجري إليها الماء، وأقام فيها ومعه أخوه يخدمه، وأقبل في هذه المُدَّة على العِبادة والتِّلاوة وتصنيف الكتب، والردِّ على المخالفين، وكَتَبَ على تفسير القرآن" .
-         في السجن كَتَب ابن تيمية في المسألة التي حبس بسببها مجلَّدات عِدَّة، وظهر بعض ما كتبه واشتهر، مما يعني إصراره على رفض القرار القضائي والسياسي بعدم فتح النقاش في هذه المسائل، فآل الأمر إلى أن مُنِعَ من الكتابة والمطالعة، وأخرجوا ما عنده من الكُتُب، ولم يتركوا عنده دواةً ولا قلمًا ولا ورقة، وكتب عقيب ذلك بفحمٍ يقول إن إخراج الكتب من عنده من أعظم النِّعَم. وبقي أشهرًا على ذلك، وأقبل على التِّلاوة والعِبادة والتهجُّد حتى أتاه اليقين، فلم يفجأ الناسَ إلا نعيُهُ، وما علموا بمرضه، وكان قد مَرِضَ عشرين يومًا.
-         كان لابن تيمية شعبية كبيرة بين الرجال والنساء، وكان الناس يعتقدون فيه الولاية ويتبركون به، وعقدت له السلطة جنازة شبه رسمية بحضور عسكري كبير، فعندما بلغهم موته ليلة 22 من ذي القعدة سنة 728هـ  (تأسَّف الخَلْقُ عليه، وحضر جَمْعٌ كبير، فأُذِنَ لهم في الدخول، وجلس جماعةٌ عِنْدَه قبل الغُسْل، وقرؤوا القرآن، وتبركوا برؤيته وتقبيله، ثم انصرفوا، وحضر جماعةٌ من النِّساء ففعلن مثل ذلك، ثم انصرفن ، واقْتُصِرَ على من يغسله ويعين عليه في غُسْله، فلما فُرِغَ من ذلك أُخرج وقد اجتمع الناس بالقَلْعة والطريق إلى جامع دمشق، وامتلأ الجامعُ وصحنه والكلَّاسة وباب البريد وباب السّاعات إلى اللَّبَّادين والفوَّارة، وحضرتِ الجِنازةُ في السَّاعة الرابعة من النَّهار أو نحو ذلك، ووُضِعَتْ في الجامع، والجُنْد يحفظونَها من الناس من شِدَّة الزِّحام، وصُلِّي عليه أولًا بالقلعة، تقدَّم في الصَّلاة عليه الشيخ محمد بن تَمَّام، ثم صُلِّيَ عليه بجامع دمشق عقب صلاة الظُّهر، وحُمِلَ من باب البريد، واشتد الزِّحام، وألقى النَّاس على نعشه مناديلَهم وعمائمهم للتبرُّك، وصار النَّعش على الرؤوس، تارة يتقدَّم وتارة يتأخَّر، وخرج النَّاس من الجامع من أبوابه كلِّها من شِدَّة الزِّحام، وكل باب أعظم زحمةً من الآخر، ثم خرج الناس من أبواب البلد جميعها من شدة الزِّحام، لكن كان المعظم من الأبواب الأربعة باب الفَرَج الذي أُخرجت منه الجِنازة، ومن باب الفراديس وباب النَّصْر وباب الجابية، وعَظُمَ الأمر بسوق الخيل، وتقدَّم في الصَّلاة عليه هناك أخوه زين الدِّين، وحُمِلَ إلى مقبرة الصُّوفية؛ فدفن إلى جانب أخيه الإِمام شرف الدِّين رحمهما الله، وكان دَفْنُه وقتَ العَصْر أو قبلها بيسير، وغلَّق الناس حوانيتَهم، ولم يتخلَّف عن الحضور، إلا نَفَرٌ قليل، أو مَنْ عَجَز للزِّحام، وحضرها من الرِّجال والنِّساء أكثر من مئتي ألف، وشرب جماعةٌ الماء الذي فَضَل من غُسْله، واقتسم جماعة بقية السِّدْر الذي غُسل به، وقيل إن الطَّاقية التي كانت على رأسه دفع فيها خمس مئة دِرْهم، وقيل إن الخيط الذي فيه الزئبق الذي في عنقه لأجل القَمْل دُفع فيه مئة وخمسون دِرْهمًا، وحصل في الجِنازة ضجيجٌ وبكاء عظيم، وتضرع كثير، وكان وقتًا مشهودًا، وخُتِمَتْ له ختم كثيرةٌ بالصَّالحية والبلد، وتردد النَّاس إلى قبره أيامًا كثيرة ليلًا ونهارًا، ورؤيت له مناماتٌ كثيرة حَسَنَةٌ، ورثاه جماعةٌ بقصائدَ جَمّةٍ.
د. أسامة جمعة الأشقر



الثلاثاء، 25 يوليو 2017

وجوه التشريع في مقاتلة المحتل داخل المسجد الأقصى

ما زلنا نسمع من طائفة من الخصوم والأصدقاء اجتهادات أو انتقادات لفعل أولئك المجاهدين الثلاثة الذين قاتلوا وقتلوا في ساحات المسجد الأقصى، وحمّلهم أولئك نتيجة عملهم إغلاقَ جيشِ الاحتلال أبوابَ المسجد الأقصى "المفتوح" للصلاة، ومنعه الصلاة والأذان لأيام، ثم فرضه البوابات الإلكترونية على الناس، فأحببتُ بيان ما أراه في جانب تأسيس التوصيف الشرعي والسياسي والواقعي للأمر وهو ما ينبغي أن يكون عليه المفتي أو المنظِّر أو صاحب الرأي قبل إطلاق الأحكام وتعميمها، واسمحوا لي أن أستخدم هنا لغة فقهية ممزوجة ببعض السياسة:
  1. -         نقرر أولاً أن الحكم لا يدور مع كراهة الناس للنتائج المتوقعة، فأغلب الجهاد ينتهي بالأسر أو الإصابة أو الاستشهاد أو الضيق الماديّ والأمني حتى إن تحقق النصر جزئياً أو كلياً (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ) فترك القتال والقعودُ عنه على ما فيه من خير مؤقت هو الأكثر ضرراً وشرّاً ( والله يعلم وأنتم لا تعلمون) .
  2. -         إن قضية المسجد الأقصى الكبرى ليست في فتحه للصلاة  أو إتاحة الزيارة له إنما هي في تمكين المسلمين من الصلاة فيه دائماً وهذا لا يتأتّى من خلال سيادة سلطة محتلة كافرة تسعى في العلن لهدمه وتخريبه وإقامة بنيان ديني باطل فيه وطرد المسلمين من جواره وأكنافه .
  3. -         بل إن واجب الوقت هو في تحريره والجهاد من أجل تمكين المسلمين من السيادة عليه ولو أدى ذلك إلى تعطيل الصلاة فيه لحينٍ فهذا مما يُعفَى عنه في القضايا الكبرى بحسابات المصالح المعتبرة .
  4. -         وإذا جاز لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقاتل في المسجد الحرام وهو أعظم حرمة وأجل مقاماً من المسجد الأقصى لمصالح سياسية شرعية معتبرة فإن هذا في حق المسجد الأقصى وهو تحت احتلال فاجرٍ قاتل صادّ ٍعن الدين والعبادة في حقيقة مساعيه وأهداف سياسته ... إن هذا لا يقل فتنةً عمّا أصاب المسجد الحرام من قبل: ( يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ ).
  5. -         ورغم استعظامنا للقتال في المساجد فإن ذلك أهون من البقاء تحت سلطة عسكرية غاصبة ظالمة لا تتورع عن ابتداع أساليب الصد عنه وطرد المقدسيين عن السكنى حوله ، وهذا محل قوله تعالى: (فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم) وإنما وقع الأمر بقتالهم وقتلهم إذا وقع منهم الاعتداء والظلم وقتال أهل الإيمان، وهذا ما هو حاصلٌ كائن من هذا المحتل الصهيوني الظالم المجرم.
  6. -         ثم إن القتال ممنوعٌ في المساجد ما لم يتعرض المسلمون للاعتداء فيه ، وبما أن المسجد الأقصى قد ارتقى فيها مئات الشهداء المدافعين عنه عبر تاريخ من المقاومة طويل فهذا يجعل من مقاتلتهم فيه مشروعاً في أصل المسألة والاستدلال عليها (ولا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ) .
  7. -         ومن مواضع الاستدلال على جواز ذلك أنْ جعل القرآنُ الدفاعَ عن المساجد وحمايتها مطلباً من مطالب هذا الدين يشرع لأجله القتال: (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ) ولم أجِدْ تفسيراً كامل الأركان بلا التواء وتكلُّفٍ، ولم أجد تنزيلاً لهذه الآية في واقعٍ أشبهَ مما جرى في باحات المسجد الأقصى في صَولة الجمعة المباركة، والأعجب أن سياق هذه الآية في موضعها من سورة البقرة كانت في حق اليهود أيضاً، فهذا الظلم الأكبر الواقع منهم بالاعتداء على حقوق الآخرين في عبادتهم وحريتهم وأرضهم بالتصرف فيه بما لا يرضى أهلُه به بأنواع المنع من إغلاق وتقييد وإجراءات معقدة تتصل كلها بالسعي الحثيث لخراب هذا المسجد العظيم المبارك المعلوم فلا يستطيع أحدٌ من أهله الصلاة فيه أو دخوله إلا باعتبارات كثيرة تجعل أكثر الناس على خوفٍ من الوصول إليه وعمارته ... فهؤلاء المانعون المحتلون الظالمون لهم الخزي المستَحقّ في الحياة الدنيا، وفي الآخرة لهم عذاب عظيم؛ والخزي خوفٌ ومقتلة وهوانٌ ومذلة إن قُدِر عليهم في الدنيا .
  8. -         ثم إن المسجد الأقصى قد اتخذه المحتلون قاعدة لقتل المسلمين المصلين والمرابطين فيه والعاكفين واعتاد ذلك منذ عقود خلت ، فكان من الواجب على كل قادر أن يعمل على خروجهم منه بكل وسيلة متاحة إلا إن كان ضررها أكبر على المدى المتوسط والبعيد فإن كان ضررها قريباً تكتيكياً ويغلب على تقدير المصلحة أنه ضرر إجرائي يمكن كسره بفعلٍ سياسيّ نشط أو دبلوماسية دولية وإقليمية فاعلة فهنا يصبح قتال المعتدين أوجب وأظهر.
  9. -         إن ما فعله الشبان الثلاثة إنما أظهر حقيقة الاحتلال وبيّن سلوكه الدائم المتخفّي باستطالة الأوقات التي يرتكب فيها جرائمه حتى ينساها الناس، فالمسجد الأقصى يتعرض دوماً للإغلاق ومنع الناس من الصلاة وطرد المقدسيين من حوله ومنع ترميمه .
  10. -         المسجد الأقصى لا يحظى بأية حقوق سياسية ودينية في القانون الإسرائيلي القائم على سلطة الاحتلال والظلم ، بل هو عندهم مرفق سياحي مؤقت ومزار ديني اقتصادي يؤدي بقاؤه على حاله الراهنة دوراً تنفيسياً ريثما يتحقق لهم زمان سياسي مناسب بات قريباً جداً في حساباتهم، وقد أحسنت عملية الشبان الثلاثة في تسريع كشف المشروع الصهيوني الحقيقي القائم مرحلياً على التقسيم الزماني والمكاني كما فعل الصهاينة في مسجد إبراهيم الخليل من قبل وصولاً إلى تصفية الوجود المعماري للمسجد الأقصى وإقامة معمار هيكل مشروعهم الديني القومي.
  11. -         ثم إن العملية لم تستهدف "مدنيين" بل جنوداً عسكريين تقوم وظيفتهم على قتل الفلسطينيين وتمكين الظلم والاحتلال وليس حراسة المصلين العابدين أو رعاية مصالحهم .
  12. -         وبما أننا على قناعة بأن الصهاينة يهدفون إلى هدم المسجد الأقصى حقاً وهم لا ينكرون ذلك أبداً فقد وجب قتالهم لردعهم عن فعل ذلك ولو بتعبئة الناس وتحريضهم وإثارة العالم عليهم ليتفرغ الناس لعبادة ربهم دون خوف في معابدهم ومساجدهم ( وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا).
  13. -         ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقر باللعب بالحراب وأدوات الحرب في المسجد، حتى إن البخاري جعل ذلك الحديث تحت باب: أصحاب الحراب في المساجد ، مما يدل على جواز استخدام السلاح في المساجد لمصلحة معتبرة يقدّرها أهل الميدان وهم أرباب المقاومة وقادتها في بيت المقدس وفلسطين، ولذلك قالت العلماء: إن اللعب بالحراب من تدريب الجوارح على معاني الحروب ، وهو من الاشتداد للعدوِّ، والقوة على الحرب فهو جائز فى المسجد وغيره .   

هذا ما سمح به الخاطر والله الموفق للصواب الهادي إلى سواء السبيل .



الاثنين، 17 يوليو 2017

نموذج الوصاية على القدس !

وقد خصص أمير المؤمنين عبد الملك بن مروان للمسجد الأقصى كمية كبيرة من الزيت المعدّ للإضاءة (مائة قسط زيت= 210 ليتر # في كل شهر)، وتكلفة تجهيز 800000 ذراع من الحصُر لفرش المسجد، وفرّغ له خدماً بلغ عددهم نحو 230 مملوكاً من الجنود المأسورين في العمليات الحربية مع البيزنطيين من خُمس الأسارى الذي يتصرف فيه الحاكم وفق المصلحة التي يراها، لذلك كان هؤلاء المماليك يسمّون بالأخماس، ولهم نُوَب وأوقات مخصوصة للعمل وفق نظام دقيق في الخدمة .
ولم يكتف الأمويون بشرف الخدمة الذي يمكن لكل ذي مال أو جاه أن يدّعيه بل حصّنوا لحمايته الثغور البحرية الشامية كلها خوفاً من غارات البيزنطيين البحرية .
لقد كانت قيمة الأمويين وخلافتهم من قيمة بيت المقدس التي جعلوها مركز قوتهم الدينية ومحل بيعتهم وأقاموا المصايف والمشاتي من حولها ، وثبت لديهم قول أبي عمرو السيبانيّ : ( ليس من الخلفاء من لم يملك المسجدين: مسجد الحرام ومسجد بيت المقدس) .

ردّ الله غربتَك أيها المسجد المبارك وأعادك إلى حياض الأمر وصرف عنكَ السوء والفحشاء وحّكام الغفلة وسلطة العار .

صناعةٌ مجفوّ أهلها

وأوصى الأمير مسلمة بن عبد الملك قائد حصار القسطنطينية زمان الأمويين  وأخو الخليفة عبد الملك بن مروان بثلث ماله لأهل الأدب (وفي رواية لطلاب الأدب) وقال: إنها صناعةٌ مَجْفُوٌّ أَهْلُهَا.
ومراده أن الأدب لا يجد من يتعاهده ويقوم عليه أو يتخصص به ويتفرغ له في ذلك الزمان على أهميته وخطورة أمره، وأهل الأدب في مفهوم الحقبة الأموية أقرب ما يكون إلى التأديب والتعليم وكثيراً ما دخل فيها أيضاً صناعة الشعر والكتابة ورواية الشعر وتعلّمه .
وشبيه به في زماننا صناعة السينما الهادفة والإعلام الرقميّ الاحترافي وصناعة الموسوعات الدقيقة فهذه كاسدة عند المتبرعين والمنتجين .
أكتب ذلك الآن لأن أقواماً كثيرين لا يجاهدون بسلاحهم ولا يشتبكون في ميدان مع العدو المحتل أو لا يجدون سبيلاً لذلك ، فإذا كان حالهم فلابد أن يتلبّسوا بنية الجهاد بالانشغال في لوازمه ومقتضياته، وقد علِمنا أن معارك الإعلام فيها الكثير من السلامة والكثير من الجرح أيضاً والتأثير في العدو المستهدَف، وهذا مقام قول الإمام المجاهد المحدِّث عبد الله بن المبارك : "كاد الأدب يكون ثلثي الدين " ويقترب منه قول الأستاذ راشد الغنوشي بعد صراعات الربيع العربي: لو عاد بي الزمن وكان لي عشرة دراهم لجعلتُ تسعة منها في الإعلام . 

الاثنين، 10 يوليو 2017

بلاد العرب أوطاني ... قصيدة حفيد حاكم صفد !

هذه القصيدة السائرة إلى يومنا هذا هي للشاعر الدمشقي فخري بيك البارودي المتوفى عام 1966م وهو شخصية ظريفة ذات نكتة وتخلّع، وكان أيضاً من المشتغلين بالسياسة إلا أنه كان يمزج المرح بالسياسة والجد بالهزل فيما حكي عنه، وهو ممن شارك الشخصية الإنجليزية الجدلية الشهيرة بلورنس العرب في نسف القطارات العثمانية فيما سمي بأحداث الثورة العربية الكبرى لاسيما أنه كان الضابط المرافق للأمير فيصل بن الشريف حسين بأمر من الشريف نفسه، وانضم فخري للشيخ طاهر الجزائري في حراكه القومي ضد السلطان العثماني هاتفاً بنهضة العرب وضرورة يقظتهم من خلال جميعة الاتحاد والترقي.
شارك – وهو الضابط العسكري المتخرج حديثاً من مدرسة الضباط الاحتياط - مع الجيش العثماني وحليفه الألماني في الحرب ضد الإنجليز أثناء الحرب العالمية الأولى في طبرية وما حولها حيث ديار جدّه ظاهر، وأسره الإنجليز في معركة بئر السبع؛ وهو ممن شارك في النضال ضد الفرنسيين أيضاً بعد ذلك.   
رعى فخري البارودي الكثير من الأدباء والفنانين حتى إن بعضهم انتسب له مثل المغني الحلبي الشهير صباح فخري واسمه الحقيقي صباح الدين أبو قوس لكثرة ما أنفق عليه في صغره ليرعى فيه ملكة الغناء وصنعته حتى تبنّاه وبذل له اسمه، وخرجّه من معهده الموسيقيّ، والتزم بهذا الاسم صباح في لاحقة اسمه تقديراً لأستاذه ومربّيه أو مراعاةً لوالده المقرئ ومعلم القرآن والمنشد الصوفيّ الحلبيّ الذي تحرّج من وضع اسم الأسرة المحافظة في سهرات الغناء والطرب الصاخبة.
ولا يعلم كثيرون أن فخري البارودي من أحفاد القائد الفلسطيني الشهير المعروف بظاهر العمر الزيداني حاكم صفد والجليل وعكا، حيث تمكن أحد أبناء ظاهر العمر وهو محمد من الفرار من والي عكا الشهير ببطشه أحمد باشا الجزار، ولجأ الجد إلى دمشق واشتغل في مصنع للبارود نُسبت إليه العائلة بعد ذلك.
ومن الطرائف أن الملحن المصري الشهير محمد عبد الوهاب عندما سمع قصيدة البارودي طرب لها وأحبّ أن يلحنها إلا أنه طلب من الشاعر أن يغير كلمة "تطوان" لاعتبارات إيقاعية في التصويت بها فأبى البارودي بشدة، تقول القصيدة :
بلاد العرب أوطاني ... من الشام لبغدان
ومن نجد إلى يمن ...  إلى مصر فتطوان
 فلا حدّ يباعدنا ... ولا دين يفرقنا ... لسان الضاد يجمعنا ... بغسان وعدنان .
وكان واضحاً أن البارودي كان من القوميين الداعين لمبدأ الوحدة بين مصر وسوريا.
كانت داره عامرة بأهل الفن والأدب والشعر والسماح، وقد شهدت  داره ولادة  قصيدة  أحمد  شوقي النونية الشهيرة :  ‏‏
قمْ ناجِ  جِلّق  وانشُدْ  رسمَ  مَن  بانوا‏‏ ... مَشَت  على  الرسم  أحداثٌ  وأزمانُ‏‏

  

الأحد، 9 يوليو 2017

عنترة والذبابة الخضراء !

في عالم الأشباح تقول الموروثات الشعبية إن هناك كائنات تحمل أرواحاً شريرة أو خيّرة تطوف بالأمكنة المخصوصة ... ومن هذه الكائنات الغريبة تلك الذبابة الخضراء أو الزرقاء التي يزيد حجمها عن الذبابة العادية بمرة أو مرتين ...
يقول بعض مستحضري الأرواح إن بعضها يزيد عمر روحها الساكنة بها عن ثمانين عاماً !
تتغذى هذه الذبابة من لحوم الآخرين وجروحهم الدامية، هي وبيوضها الفاقسة فيها التي تتحول يرقاتها إلى ديدان تنخر اللحم وتعفّنه ثم تتغذى عليه .  
هذا الذباب لامعٌ برّاق يلبس بذلة غالية يجذب الضحايا إليه برفق، وهو يمتلك حاسة شم قويّة، ولاسيما ذباب المقابر منه، حيث إنه يشتم رائحة الجثث من مسافة تزيد عن ثلاثة كيلومترات بقرونه الاستشعارية التي تعمل كالهوائيات اللاقطة، ويستخدمه علماء التشريح الجنائي في الاستدلال على مواضع الجثث المخفيّة، والعجيب أنه سريع جداً في اكتشاف الجثة إذ لا يحتاج إلا لدقائق معدودة هي مسافة الطريق عادةً، طبعاً ليس ليكشف الضحية ويساعدها بل ليتغذى عليها ويفتك بها ويزيل معالمها، ثم يقف مختالاً يحكّ ذراعه بذراعه.
لذلك قالوا في الافتخار بالقدرة على إخفاء الأشياء إن الذباب الأزرق نفسه لن يستطيع الوصول إليها ! لكنهم لم يعرفوا عن ذبابتنا المعمِّرة !    
هذا الذباب يقولون له في العربية العنتر، وإذا اشتدّ صخَبُه وتعالى صوتُه واستعرض على الناس بعضلاته سموا صوته عنترة، وربما كان ذلك سبب تسميتهم أفعال هؤلاء المستعرِضين بالعنتريات لا نسبةً إلى عنترة ... ربما ... وزاد بعضهم إن هذه الذبابة باتت تستطيع قطع الكهرباء لشدّة نهمها وشهوة بطنها وطيش أخلاقها وذلك أنها تستمدّ بريقها ولمعانها مما تمتصّه من كهرباء المحرومين والمحاصَرين .