الثلاثاء، 25 يوليو 2017

وجوه التشريع في مقاتلة المحتل داخل المسجد الأقصى

ما زلنا نسمع من طائفة من الخصوم والأصدقاء اجتهادات أو انتقادات لفعل أولئك المجاهدين الثلاثة الذين قاتلوا وقتلوا في ساحات المسجد الأقصى، وحمّلهم أولئك نتيجة عملهم إغلاقَ جيشِ الاحتلال أبوابَ المسجد الأقصى "المفتوح" للصلاة، ومنعه الصلاة والأذان لأيام، ثم فرضه البوابات الإلكترونية على الناس، فأحببتُ بيان ما أراه في جانب تأسيس التوصيف الشرعي والسياسي والواقعي للأمر وهو ما ينبغي أن يكون عليه المفتي أو المنظِّر أو صاحب الرأي قبل إطلاق الأحكام وتعميمها، واسمحوا لي أن أستخدم هنا لغة فقهية ممزوجة ببعض السياسة:
  1. -         نقرر أولاً أن الحكم لا يدور مع كراهة الناس للنتائج المتوقعة، فأغلب الجهاد ينتهي بالأسر أو الإصابة أو الاستشهاد أو الضيق الماديّ والأمني حتى إن تحقق النصر جزئياً أو كلياً (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ) فترك القتال والقعودُ عنه على ما فيه من خير مؤقت هو الأكثر ضرراً وشرّاً ( والله يعلم وأنتم لا تعلمون) .
  2. -         إن قضية المسجد الأقصى الكبرى ليست في فتحه للصلاة  أو إتاحة الزيارة له إنما هي في تمكين المسلمين من الصلاة فيه دائماً وهذا لا يتأتّى من خلال سيادة سلطة محتلة كافرة تسعى في العلن لهدمه وتخريبه وإقامة بنيان ديني باطل فيه وطرد المسلمين من جواره وأكنافه .
  3. -         بل إن واجب الوقت هو في تحريره والجهاد من أجل تمكين المسلمين من السيادة عليه ولو أدى ذلك إلى تعطيل الصلاة فيه لحينٍ فهذا مما يُعفَى عنه في القضايا الكبرى بحسابات المصالح المعتبرة .
  4. -         وإذا جاز لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقاتل في المسجد الحرام وهو أعظم حرمة وأجل مقاماً من المسجد الأقصى لمصالح سياسية شرعية معتبرة فإن هذا في حق المسجد الأقصى وهو تحت احتلال فاجرٍ قاتل صادّ ٍعن الدين والعبادة في حقيقة مساعيه وأهداف سياسته ... إن هذا لا يقل فتنةً عمّا أصاب المسجد الحرام من قبل: ( يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ ).
  5. -         ورغم استعظامنا للقتال في المساجد فإن ذلك أهون من البقاء تحت سلطة عسكرية غاصبة ظالمة لا تتورع عن ابتداع أساليب الصد عنه وطرد المقدسيين عن السكنى حوله ، وهذا محل قوله تعالى: (فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم) وإنما وقع الأمر بقتالهم وقتلهم إذا وقع منهم الاعتداء والظلم وقتال أهل الإيمان، وهذا ما هو حاصلٌ كائن من هذا المحتل الصهيوني الظالم المجرم.
  6. -         ثم إن القتال ممنوعٌ في المساجد ما لم يتعرض المسلمون للاعتداء فيه ، وبما أن المسجد الأقصى قد ارتقى فيها مئات الشهداء المدافعين عنه عبر تاريخ من المقاومة طويل فهذا يجعل من مقاتلتهم فيه مشروعاً في أصل المسألة والاستدلال عليها (ولا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ) .
  7. -         ومن مواضع الاستدلال على جواز ذلك أنْ جعل القرآنُ الدفاعَ عن المساجد وحمايتها مطلباً من مطالب هذا الدين يشرع لأجله القتال: (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ) ولم أجِدْ تفسيراً كامل الأركان بلا التواء وتكلُّفٍ، ولم أجد تنزيلاً لهذه الآية في واقعٍ أشبهَ مما جرى في باحات المسجد الأقصى في صَولة الجمعة المباركة، والأعجب أن سياق هذه الآية في موضعها من سورة البقرة كانت في حق اليهود أيضاً، فهذا الظلم الأكبر الواقع منهم بالاعتداء على حقوق الآخرين في عبادتهم وحريتهم وأرضهم بالتصرف فيه بما لا يرضى أهلُه به بأنواع المنع من إغلاق وتقييد وإجراءات معقدة تتصل كلها بالسعي الحثيث لخراب هذا المسجد العظيم المبارك المعلوم فلا يستطيع أحدٌ من أهله الصلاة فيه أو دخوله إلا باعتبارات كثيرة تجعل أكثر الناس على خوفٍ من الوصول إليه وعمارته ... فهؤلاء المانعون المحتلون الظالمون لهم الخزي المستَحقّ في الحياة الدنيا، وفي الآخرة لهم عذاب عظيم؛ والخزي خوفٌ ومقتلة وهوانٌ ومذلة إن قُدِر عليهم في الدنيا .
  8. -         ثم إن المسجد الأقصى قد اتخذه المحتلون قاعدة لقتل المسلمين المصلين والمرابطين فيه والعاكفين واعتاد ذلك منذ عقود خلت ، فكان من الواجب على كل قادر أن يعمل على خروجهم منه بكل وسيلة متاحة إلا إن كان ضررها أكبر على المدى المتوسط والبعيد فإن كان ضررها قريباً تكتيكياً ويغلب على تقدير المصلحة أنه ضرر إجرائي يمكن كسره بفعلٍ سياسيّ نشط أو دبلوماسية دولية وإقليمية فاعلة فهنا يصبح قتال المعتدين أوجب وأظهر.
  9. -         إن ما فعله الشبان الثلاثة إنما أظهر حقيقة الاحتلال وبيّن سلوكه الدائم المتخفّي باستطالة الأوقات التي يرتكب فيها جرائمه حتى ينساها الناس، فالمسجد الأقصى يتعرض دوماً للإغلاق ومنع الناس من الصلاة وطرد المقدسيين من حوله ومنع ترميمه .
  10. -         المسجد الأقصى لا يحظى بأية حقوق سياسية ودينية في القانون الإسرائيلي القائم على سلطة الاحتلال والظلم ، بل هو عندهم مرفق سياحي مؤقت ومزار ديني اقتصادي يؤدي بقاؤه على حاله الراهنة دوراً تنفيسياً ريثما يتحقق لهم زمان سياسي مناسب بات قريباً جداً في حساباتهم، وقد أحسنت عملية الشبان الثلاثة في تسريع كشف المشروع الصهيوني الحقيقي القائم مرحلياً على التقسيم الزماني والمكاني كما فعل الصهاينة في مسجد إبراهيم الخليل من قبل وصولاً إلى تصفية الوجود المعماري للمسجد الأقصى وإقامة معمار هيكل مشروعهم الديني القومي.
  11. -         ثم إن العملية لم تستهدف "مدنيين" بل جنوداً عسكريين تقوم وظيفتهم على قتل الفلسطينيين وتمكين الظلم والاحتلال وليس حراسة المصلين العابدين أو رعاية مصالحهم .
  12. -         وبما أننا على قناعة بأن الصهاينة يهدفون إلى هدم المسجد الأقصى حقاً وهم لا ينكرون ذلك أبداً فقد وجب قتالهم لردعهم عن فعل ذلك ولو بتعبئة الناس وتحريضهم وإثارة العالم عليهم ليتفرغ الناس لعبادة ربهم دون خوف في معابدهم ومساجدهم ( وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا).
  13. -         ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقر باللعب بالحراب وأدوات الحرب في المسجد، حتى إن البخاري جعل ذلك الحديث تحت باب: أصحاب الحراب في المساجد ، مما يدل على جواز استخدام السلاح في المساجد لمصلحة معتبرة يقدّرها أهل الميدان وهم أرباب المقاومة وقادتها في بيت المقدس وفلسطين، ولذلك قالت العلماء: إن اللعب بالحراب من تدريب الجوارح على معاني الحروب ، وهو من الاشتداد للعدوِّ، والقوة على الحرب فهو جائز فى المسجد وغيره .   

هذا ما سمح به الخاطر والله الموفق للصواب الهادي إلى سواء السبيل .



الاثنين، 17 يوليو 2017

نموذج الوصاية على القدس !

وقد خصص أمير المؤمنين عبد الملك بن مروان للمسجد الأقصى كمية كبيرة من الزيت المعدّ للإضاءة (مائة قسط زيت= 210 ليتر # في كل شهر)، وتكلفة تجهيز 800000 ذراع من الحصُر لفرش المسجد، وفرّغ له خدماً بلغ عددهم نحو 230 مملوكاً من الجنود المأسورين في العمليات الحربية مع البيزنطيين من خُمس الأسارى الذي يتصرف فيه الحاكم وفق المصلحة التي يراها، لذلك كان هؤلاء المماليك يسمّون بالأخماس، ولهم نُوَب وأوقات مخصوصة للعمل وفق نظام دقيق في الخدمة .
ولم يكتف الأمويون بشرف الخدمة الذي يمكن لكل ذي مال أو جاه أن يدّعيه بل حصّنوا لحمايته الثغور البحرية الشامية كلها خوفاً من غارات البيزنطيين البحرية .
لقد كانت قيمة الأمويين وخلافتهم من قيمة بيت المقدس التي جعلوها مركز قوتهم الدينية ومحل بيعتهم وأقاموا المصايف والمشاتي من حولها ، وثبت لديهم قول أبي عمرو السيبانيّ : ( ليس من الخلفاء من لم يملك المسجدين: مسجد الحرام ومسجد بيت المقدس) .

ردّ الله غربتَك أيها المسجد المبارك وأعادك إلى حياض الأمر وصرف عنكَ السوء والفحشاء وحّكام الغفلة وسلطة العار .

صناعةٌ مجفوّ أهلها

وأوصى الأمير مسلمة بن عبد الملك قائد حصار القسطنطينية زمان الأمويين  وأخو الخليفة عبد الملك بن مروان بثلث ماله لأهل الأدب (وفي رواية لطلاب الأدب) وقال: إنها صناعةٌ مَجْفُوٌّ أَهْلُهَا.
ومراده أن الأدب لا يجد من يتعاهده ويقوم عليه أو يتخصص به ويتفرغ له في ذلك الزمان على أهميته وخطورة أمره، وأهل الأدب في مفهوم الحقبة الأموية أقرب ما يكون إلى التأديب والتعليم وكثيراً ما دخل فيها أيضاً صناعة الشعر والكتابة ورواية الشعر وتعلّمه .
وشبيه به في زماننا صناعة السينما الهادفة والإعلام الرقميّ الاحترافي وصناعة الموسوعات الدقيقة فهذه كاسدة عند المتبرعين والمنتجين .
أكتب ذلك الآن لأن أقواماً كثيرين لا يجاهدون بسلاحهم ولا يشتبكون في ميدان مع العدو المحتل أو لا يجدون سبيلاً لذلك ، فإذا كان حالهم فلابد أن يتلبّسوا بنية الجهاد بالانشغال في لوازمه ومقتضياته، وقد علِمنا أن معارك الإعلام فيها الكثير من السلامة والكثير من الجرح أيضاً والتأثير في العدو المستهدَف، وهذا مقام قول الإمام المجاهد المحدِّث عبد الله بن المبارك : "كاد الأدب يكون ثلثي الدين " ويقترب منه قول الأستاذ راشد الغنوشي بعد صراعات الربيع العربي: لو عاد بي الزمن وكان لي عشرة دراهم لجعلتُ تسعة منها في الإعلام . 

الاثنين، 10 يوليو 2017

بلاد العرب أوطاني ... قصيدة حفيد حاكم صفد !

هذه القصيدة السائرة إلى يومنا هذا هي للشاعر الدمشقي فخري بيك البارودي المتوفى عام 1966م وهو شخصية ظريفة ذات نكتة وتخلّع، وكان أيضاً من المشتغلين بالسياسة إلا أنه كان يمزج المرح بالسياسة والجد بالهزل فيما حكي عنه، وهو ممن شارك الشخصية الإنجليزية الجدلية الشهيرة بلورنس العرب في نسف القطارات العثمانية فيما سمي بأحداث الثورة العربية الكبرى لاسيما أنه كان الضابط المرافق للأمير فيصل بن الشريف حسين بأمر من الشريف نفسه، وانضم فخري للشيخ طاهر الجزائري في حراكه القومي ضد السلطان العثماني هاتفاً بنهضة العرب وضرورة يقظتهم من خلال جميعة الاتحاد والترقي.
شارك – وهو الضابط العسكري المتخرج حديثاً من مدرسة الضباط الاحتياط - مع الجيش العثماني وحليفه الألماني في الحرب ضد الإنجليز أثناء الحرب العالمية الأولى في طبرية وما حولها حيث ديار جدّه ظاهر، وأسره الإنجليز في معركة بئر السبع؛ وهو ممن شارك في النضال ضد الفرنسيين أيضاً بعد ذلك.   
رعى فخري البارودي الكثير من الأدباء والفنانين حتى إن بعضهم انتسب له مثل المغني الحلبي الشهير صباح فخري واسمه الحقيقي صباح الدين أبو قوس لكثرة ما أنفق عليه في صغره ليرعى فيه ملكة الغناء وصنعته حتى تبنّاه وبذل له اسمه، وخرجّه من معهده الموسيقيّ، والتزم بهذا الاسم صباح في لاحقة اسمه تقديراً لأستاذه ومربّيه أو مراعاةً لوالده المقرئ ومعلم القرآن والمنشد الصوفيّ الحلبيّ الذي تحرّج من وضع اسم الأسرة المحافظة في سهرات الغناء والطرب الصاخبة.
ولا يعلم كثيرون أن فخري البارودي من أحفاد القائد الفلسطيني الشهير المعروف بظاهر العمر الزيداني حاكم صفد والجليل وعكا، حيث تمكن أحد أبناء ظاهر العمر وهو محمد من الفرار من والي عكا الشهير ببطشه أحمد باشا الجزار، ولجأ الجد إلى دمشق واشتغل في مصنع للبارود نُسبت إليه العائلة بعد ذلك.
ومن الطرائف أن الملحن المصري الشهير محمد عبد الوهاب عندما سمع قصيدة البارودي طرب لها وأحبّ أن يلحنها إلا أنه طلب من الشاعر أن يغير كلمة "تطوان" لاعتبارات إيقاعية في التصويت بها فأبى البارودي بشدة، تقول القصيدة :
بلاد العرب أوطاني ... من الشام لبغدان
ومن نجد إلى يمن ...  إلى مصر فتطوان
 فلا حدّ يباعدنا ... ولا دين يفرقنا ... لسان الضاد يجمعنا ... بغسان وعدنان .
وكان واضحاً أن البارودي كان من القوميين الداعين لمبدأ الوحدة بين مصر وسوريا.
كانت داره عامرة بأهل الفن والأدب والشعر والسماح، وقد شهدت  داره ولادة  قصيدة  أحمد  شوقي النونية الشهيرة :  ‏‏
قمْ ناجِ  جِلّق  وانشُدْ  رسمَ  مَن  بانوا‏‏ ... مَشَت  على  الرسم  أحداثٌ  وأزمانُ‏‏

  

الأحد، 9 يوليو 2017

عنترة والذبابة الخضراء !

في عالم الأشباح تقول الموروثات الشعبية إن هناك كائنات تحمل أرواحاً شريرة أو خيّرة تطوف بالأمكنة المخصوصة ... ومن هذه الكائنات الغريبة تلك الذبابة الخضراء أو الزرقاء التي يزيد حجمها عن الذبابة العادية بمرة أو مرتين ...
يقول بعض مستحضري الأرواح إن بعضها يزيد عمر روحها الساكنة بها عن ثمانين عاماً !
تتغذى هذه الذبابة من لحوم الآخرين وجروحهم الدامية، هي وبيوضها الفاقسة فيها التي تتحول يرقاتها إلى ديدان تنخر اللحم وتعفّنه ثم تتغذى عليه .  
هذا الذباب لامعٌ برّاق يلبس بذلة غالية يجذب الضحايا إليه برفق، وهو يمتلك حاسة شم قويّة، ولاسيما ذباب المقابر منه، حيث إنه يشتم رائحة الجثث من مسافة تزيد عن ثلاثة كيلومترات بقرونه الاستشعارية التي تعمل كالهوائيات اللاقطة، ويستخدمه علماء التشريح الجنائي في الاستدلال على مواضع الجثث المخفيّة، والعجيب أنه سريع جداً في اكتشاف الجثة إذ لا يحتاج إلا لدقائق معدودة هي مسافة الطريق عادةً، طبعاً ليس ليكشف الضحية ويساعدها بل ليتغذى عليها ويفتك بها ويزيل معالمها، ثم يقف مختالاً يحكّ ذراعه بذراعه.
لذلك قالوا في الافتخار بالقدرة على إخفاء الأشياء إن الذباب الأزرق نفسه لن يستطيع الوصول إليها ! لكنهم لم يعرفوا عن ذبابتنا المعمِّرة !    
هذا الذباب يقولون له في العربية العنتر، وإذا اشتدّ صخَبُه وتعالى صوتُه واستعرض على الناس بعضلاته سموا صوته عنترة، وربما كان ذلك سبب تسميتهم أفعال هؤلاء المستعرِضين بالعنتريات لا نسبةً إلى عنترة ... ربما ... وزاد بعضهم إن هذه الذبابة باتت تستطيع قطع الكهرباء لشدّة نهمها وشهوة بطنها وطيش أخلاقها وذلك أنها تستمدّ بريقها ولمعانها مما تمتصّه من كهرباء المحرومين والمحاصَرين .

الاثنين، 3 يوليو 2017

هذا رأيك !


الرأي شيء وانفعالاتك وميولك التي تسجِّل بها مواقفَك شيء آخر !
الرأي يا صديقي ليس حكماً قاطعاً وإنما نتيجة مبنية على استنتاج منطقي !
سأقبل تقدير انفعالاتك واحترام ميولك إذا كنتَ تتعامل مع الأفكار الجاهزة والمسبقة الصنع كما تفعل مجتمعات العوامّ ولكن إياك أن تسمّي هذه المواقف النفسية المسيطِرة عليكَ رأياً ...
تحكُّماتك النفسية لا تُلزِمني بشيء فلا تتخذها دليلَ احتجاجٍ عليّ ...
بعد ذلك عليك أن تتعلم أنّ معارضة الرأي تأتي من خلال الاستدلال على الخلل في المقدمات أو الأدوات أو العرض أو تقرير النتيجة وليس لأنه لا يعجبني أو أنه غريبٌ عني. 

جماليات الفصل الحارّ !

تتقلّب الفصول على الإنسان فتكسر نمط حياته الرتيبة وتحفّزه للتجديد والتغيير، وينسى الإنسان فضائل كل فصل إذا تمكّن الفصلُ في سلطانه وعَزّ في زمانه؛ فما عليك سوى أن تستسلم لسلطان الحر وترضى بقصاء الله لك فيه، وتأوي إلى الظل المقترِن به والمرافق له، وتتخفف من ملابسك الثقيلة... ومن هذا الرضا تهدأ أمزجة النفس المتقلِّبة !
ولا أدري لماذا يُكثر الناس من الشكوى إذا اشتدت عليهم الشمس وأسرع إليهم زَفِيف الحَر، ويغفلون عن فضائل الحر، مما تستطيل به الكتابة، وتَقْصُر عن بيان محاسنه الخُطب، إذ كان يكفيهم القليل من الشكوى حتى تعبر موجة العالية التي يعلن فيها الحر سطوته المعتادة قبل أن يذبل شيئاً فشيئاً.
وتبتدئ منزلة الحر في حروفه ونظمها إذ إنّ بين الحَرّ والحُر تلازماً وتعانقاً لا يفرّقهما سوى صوتَي الفتح والضم القصيرين، وذلك أن نفْس الحُر حارّة مبادِرة نشيطة شابة قويّة، تحتمل الشدة وقساوة الظروف وتُتَحصّل به التجارب وتتأسس عليه الحكمة، ألا ترى أنك تقول في المفاضلة بين اثنين: هذا شخص حار وهذا شخص بارد، فانظر الفرق ما بينهما !
والحَر يعطيك الأمل في أحلك الظروف وإن كان موضوعياً لا يدّعي أنه يمنحك الخلاص، وشعارُه ذاك السراب المُتخيَّلُ في القيعان وبطون الفلَوات في شدة الحر كأنه ماء !
و الحَر رسول النور والضياء والممثل الرسميّ الخيِّر للشمس، يقول الجاحظ: " وليس في الأرض ضياء انفصل من الشمس إلّا ومعه نصيبه من الحرّ، وقد يفارق الحرّ الضياء في بعض المواضع، والضّياء لا يفارق الحرّ في مكان من الأماكن".
وبالحر والضياء يتحد الجنسان المكوِّنان للنارالتي نُنضِج فيها طعامنا، ونطهّر به شرابنا من هوام الجراثيم القاتلة، ونجالد بها أعداءنا، ونتداوى أيضاً بمَسِيس لهيبها، والإحراق – وهو أمر سيء - ليس مرتبطاً بحرّ النار وحدها فكثيراً ما أحرق الثلج المتجمّد المزروعات وأفسدها بجليده.
والحَر موقفٌ مبدئيٌّ من مزاج البرد الذي يُغالي في إرهاب أتباعه والتشدد عليهم في اتخاذ ألبسة إجبارية كثيفة سميكة تثقل كاهل الإنسان، حتى إنهم قالوا إن الهاجرة وهي شدة الحر سموها بذلك لأنها هجرت البرد وقاطعته.
والحرّ إذا أقبل فإن مؤونته سهلة وإجراءاته غير مكلفة بعكس البرد فإنه إذا أقبل فكل ذي حرفة يضطرب ويحتال فيما يعدّه للشتاء لغرض الدفء وتخزين القوت وتحصين البيوت وحماية المزورعات والحيوانات الداجنة ... .
والحر ربما قسا علينا قليلاً بسبب قوانينه التي تعمّ باتغاء المصلحة العامة كما هي القوانين والسنن عامّةً، لكن البرد يموّتُ روحنا ويخدرنا ويعزلنا حين ننضمّ إلى بعضنا وننكمش لنحمي عظام أجسادنا من كسرة البرد القارص القارض.
والحرّ يظهر جمال البرد وأخلاقه الحميدة القليلة إذ لا يطيب الماء البارد ويُنعش إلا إذا تفصَّى الحر من حوله.
والحر من عوارض الطبيعة كالبرد ، ويكون مطلوبا إذا اشتد البرد حتى إن الطيور تهاجر بين القارات المتباعدة لأجله فتبني أعشاشها وتضع بيضها وتتكاثر، ولولا الحر لما كان البيض ولا الفراخ ولا صغار الأنعام ... .
وإذا ترافق الحر مع الماء في الغدران والحفائر والواحات والأنهار ضجّت الطبيعة بالحياة والخضرة وصارت مرتعاً للأطيار المغنّية التي تجد غذاءها من الحشرات والبرمائيات في كل ناحية.
والحر يعين الناس على البر وصلة الأرحام إذ يظلون في بيوتهم وقت اشتداد الحر وينحاز الناس إلى أطراف النهار في أعمالهم، وهو من الأسباب الداعية إلى راحة البدن وتخفيف الضغط عليه حيث يميل الناس للاصطياف فيه والسياحة والتمتع بإبداع الخالق العظيم، ولذلك اعترض المعترضون على الخروج وقالوا: ( لا تنفروا في الحر) حيث تطيب الثمار وتجتمع الأسرة .
والحر يعين المرء على تفريغ السموم في بدنه عبر العرق المصبوب منه، ويذيب الدهن في الأبدان المترهِّلة
وفي وقت الحر لا يستغني المرء عن الماء، فينقي الجسم لكثرة ما يشرب فتتعافى كُليتاه وتنشط أعضاؤه .
ويظنون أن الحر قرين جهنم وهذا خطأ فإنما هو فيحٌ منها مُذكِّرٌ بها، وأنه في حقيقة الأمر جوهر ينقلب إلى عقوبة للمتمرد الكفور الجاحد فيصير جحيماً وناراً لاهبة !
وقد منّ الله على عباده بالسرابيل التي تقي الإنسان من الحر واكتفى بها عن سرابيل البرد: ( وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ) وفهمنا من المقارنة أن الحرارة بأسٌ وشدة تستلزم الوقاية والامتناع، وللحر فضيلة هنا أن الوقاية منه أقل كلفة ومؤونة من الوقاية من البرد الذي لا يندفع إلا بتكليف زائد، فلذلك ذكر الحر وحده ولم يذكر البرد في الآية.
وفي الحر ينضج قوت الناس والحيوان من القمح والشعير والتمر والذرة، ويجد المرء فواكه الترطيب من البطيخ والشمام والصبّار، وأنواع كثيرة من الخضار لا تجد ضيافة كريمةً لها في البرد.
وفي الحر يكون موسم الصيد حيث تجتمع الغزلان والحمام البري والقطا والإوز المهاجر والأرانب حول المياه القليلة المتجمعة في البراري، وتأوي الظباء إلى كُنُسِها خوفاً على عينيها الصافيتين من بريق الشمس الضاحية.
والحرّ يؤدب هوام الأرض فلا تستطيع العقارب والثعابين أن تتحرك فيه وتنتظر هبوط الليل لتغزو غزواتها وتبث شرّها .
ويظن الناس أن البعوض والذبان إنما تقتحم بيوتنا في الحر فتعضنا عضّاً، وما دروا أنها تبحث عن الضوء لا عن الحر، كما أن كثرتها غذاء للطير السابح في السماء. 
وكثيراً من يغنيك الحر القائظ عن النار والكهرباء والوقود الذي تتضاعف أسعاره، فيغلي لك ماء الحمّام، ويقلي لك البيض، وهو الماء الأفضل لنقع الحمص والفول والترمس !
وللحر منزلة في الشهور إذ سمي به شهر معظم يقال له رمضان الذي سمي بذلك لشدة رمضه أي حرّه، وكأن ارتفاع الأجر وعظم الثواب يكون مع مشقة الصيام في الحر !  

وما زالت الصحائف ممتدة في الحديث عن الحرّ أمتعكم الله به ... !

السبت، 1 يوليو 2017

عندما تشيب مثلي !

ولقِيَني بعد دهرٍ: لقد شِبتَ أبا عمر ! أصبحتَ مَلْهُوزاً !
أرأيتَ هذا الانفعال الجامح الشديد الذي يشعّ في داخلك ويتسلل شعاعه إلى شعرك فيفتّت أصباغه السوداء، ويترك وراءه آثاراً خالية من الألوان، فلا ترى إلا البياض يتقدّم !  
تمرّ عليك آيات الوعيد وتجارب السالفين، ويأتيك الأمر بالاستقامة (فاستقِمْ كما أُمرِت) فتشيب من هول الشعور بالمسؤولية: (شيبتني هود وأخواتها)
وانفعال الفزع من أحداث القيامة يجعل (الولدان شِيباً) فاحذر أن تخيف نفسك أو تتركها رهينة الخوف في حياتك الدنيا .
وتصعد المنابر فتنفعل بقضاياك التي تخطب بها أمام الناس وتخشى الخطأ المفضي إلى انشغالهم عنك أو كشف مستواك وعمق جوهرك فتشيب: ( شيبني ارتقاء المنابر) .
هذا الإرهاق العصبي الذي تخوضه في كل مراحل حياتك فتلقي فيه كل طاقتك الانفعالية فتغضب كثيراً وتحزن كثيراً وتكتئب كثيراً ... إنه يجعل الشيب يسيطر عليك وينقلك بسرعة إلى الشيخوخة (ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً) ولو تجرّدت مشاعرك وعقلت لتجدَّد شبابك حتى تستوفي أجلك في الدنيا .
الشيب نذير لك فاحذر ألا تشيب شعرة منكَ أخرى قبل أن تفتح صفحة جديدة أمام ربك وأمام نفسك وأمام الناس، فقد بدأ الموتُ يغرز راياته وأعلامه على تِلال شَعرك !
هذا وقت القرار الحاسم !
عندما ظهرت أولى شيباتي كانت فواتح قراراتي في اتجاهاتي وأولوياتي واهتماماتي، وبتُّ أعرف طريقي، وحددتُ سقوف طموحي، وعرفتُ كيف أختم حياتي !