الاثنين، 3 يوليو 2017

جماليات الفصل الحارّ !

تتقلّب الفصول على الإنسان فتكسر نمط حياته الرتيبة وتحفّزه للتجديد والتغيير، وينسى الإنسان فضائل كل فصل إذا تمكّن الفصلُ في سلطانه وعَزّ في زمانه؛ فما عليك سوى أن تستسلم لسلطان الحر وترضى بقصاء الله لك فيه، وتأوي إلى الظل المقترِن به والمرافق له، وتتخفف من ملابسك الثقيلة... ومن هذا الرضا تهدأ أمزجة النفس المتقلِّبة !
ولا أدري لماذا يُكثر الناس من الشكوى إذا اشتدت عليهم الشمس وأسرع إليهم زَفِيف الحَر، ويغفلون عن فضائل الحر، مما تستطيل به الكتابة، وتَقْصُر عن بيان محاسنه الخُطب، إذ كان يكفيهم القليل من الشكوى حتى تعبر موجة العالية التي يعلن فيها الحر سطوته المعتادة قبل أن يذبل شيئاً فشيئاً.
وتبتدئ منزلة الحر في حروفه ونظمها إذ إنّ بين الحَرّ والحُر تلازماً وتعانقاً لا يفرّقهما سوى صوتَي الفتح والضم القصيرين، وذلك أن نفْس الحُر حارّة مبادِرة نشيطة شابة قويّة، تحتمل الشدة وقساوة الظروف وتُتَحصّل به التجارب وتتأسس عليه الحكمة، ألا ترى أنك تقول في المفاضلة بين اثنين: هذا شخص حار وهذا شخص بارد، فانظر الفرق ما بينهما !
والحَر يعطيك الأمل في أحلك الظروف وإن كان موضوعياً لا يدّعي أنه يمنحك الخلاص، وشعارُه ذاك السراب المُتخيَّلُ في القيعان وبطون الفلَوات في شدة الحر كأنه ماء !
و الحَر رسول النور والضياء والممثل الرسميّ الخيِّر للشمس، يقول الجاحظ: " وليس في الأرض ضياء انفصل من الشمس إلّا ومعه نصيبه من الحرّ، وقد يفارق الحرّ الضياء في بعض المواضع، والضّياء لا يفارق الحرّ في مكان من الأماكن".
وبالحر والضياء يتحد الجنسان المكوِّنان للنارالتي نُنضِج فيها طعامنا، ونطهّر به شرابنا من هوام الجراثيم القاتلة، ونجالد بها أعداءنا، ونتداوى أيضاً بمَسِيس لهيبها، والإحراق – وهو أمر سيء - ليس مرتبطاً بحرّ النار وحدها فكثيراً ما أحرق الثلج المتجمّد المزروعات وأفسدها بجليده.
والحَر موقفٌ مبدئيٌّ من مزاج البرد الذي يُغالي في إرهاب أتباعه والتشدد عليهم في اتخاذ ألبسة إجبارية كثيفة سميكة تثقل كاهل الإنسان، حتى إنهم قالوا إن الهاجرة وهي شدة الحر سموها بذلك لأنها هجرت البرد وقاطعته.
والحرّ إذا أقبل فإن مؤونته سهلة وإجراءاته غير مكلفة بعكس البرد فإنه إذا أقبل فكل ذي حرفة يضطرب ويحتال فيما يعدّه للشتاء لغرض الدفء وتخزين القوت وتحصين البيوت وحماية المزورعات والحيوانات الداجنة ... .
والحر ربما قسا علينا قليلاً بسبب قوانينه التي تعمّ باتغاء المصلحة العامة كما هي القوانين والسنن عامّةً، لكن البرد يموّتُ روحنا ويخدرنا ويعزلنا حين ننضمّ إلى بعضنا وننكمش لنحمي عظام أجسادنا من كسرة البرد القارص القارض.
والحرّ يظهر جمال البرد وأخلاقه الحميدة القليلة إذ لا يطيب الماء البارد ويُنعش إلا إذا تفصَّى الحر من حوله.
والحر من عوارض الطبيعة كالبرد ، ويكون مطلوبا إذا اشتد البرد حتى إن الطيور تهاجر بين القارات المتباعدة لأجله فتبني أعشاشها وتضع بيضها وتتكاثر، ولولا الحر لما كان البيض ولا الفراخ ولا صغار الأنعام ... .
وإذا ترافق الحر مع الماء في الغدران والحفائر والواحات والأنهار ضجّت الطبيعة بالحياة والخضرة وصارت مرتعاً للأطيار المغنّية التي تجد غذاءها من الحشرات والبرمائيات في كل ناحية.
والحر يعين الناس على البر وصلة الأرحام إذ يظلون في بيوتهم وقت اشتداد الحر وينحاز الناس إلى أطراف النهار في أعمالهم، وهو من الأسباب الداعية إلى راحة البدن وتخفيف الضغط عليه حيث يميل الناس للاصطياف فيه والسياحة والتمتع بإبداع الخالق العظيم، ولذلك اعترض المعترضون على الخروج وقالوا: ( لا تنفروا في الحر) حيث تطيب الثمار وتجتمع الأسرة .
والحر يعين المرء على تفريغ السموم في بدنه عبر العرق المصبوب منه، ويذيب الدهن في الأبدان المترهِّلة
وفي وقت الحر لا يستغني المرء عن الماء، فينقي الجسم لكثرة ما يشرب فتتعافى كُليتاه وتنشط أعضاؤه .
ويظنون أن الحر قرين جهنم وهذا خطأ فإنما هو فيحٌ منها مُذكِّرٌ بها، وأنه في حقيقة الأمر جوهر ينقلب إلى عقوبة للمتمرد الكفور الجاحد فيصير جحيماً وناراً لاهبة !
وقد منّ الله على عباده بالسرابيل التي تقي الإنسان من الحر واكتفى بها عن سرابيل البرد: ( وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ) وفهمنا من المقارنة أن الحرارة بأسٌ وشدة تستلزم الوقاية والامتناع، وللحر فضيلة هنا أن الوقاية منه أقل كلفة ومؤونة من الوقاية من البرد الذي لا يندفع إلا بتكليف زائد، فلذلك ذكر الحر وحده ولم يذكر البرد في الآية.
وفي الحر ينضج قوت الناس والحيوان من القمح والشعير والتمر والذرة، ويجد المرء فواكه الترطيب من البطيخ والشمام والصبّار، وأنواع كثيرة من الخضار لا تجد ضيافة كريمةً لها في البرد.
وفي الحر يكون موسم الصيد حيث تجتمع الغزلان والحمام البري والقطا والإوز المهاجر والأرانب حول المياه القليلة المتجمعة في البراري، وتأوي الظباء إلى كُنُسِها خوفاً على عينيها الصافيتين من بريق الشمس الضاحية.
والحرّ يؤدب هوام الأرض فلا تستطيع العقارب والثعابين أن تتحرك فيه وتنتظر هبوط الليل لتغزو غزواتها وتبث شرّها .
ويظن الناس أن البعوض والذبان إنما تقتحم بيوتنا في الحر فتعضنا عضّاً، وما دروا أنها تبحث عن الضوء لا عن الحر، كما أن كثرتها غذاء للطير السابح في السماء. 
وكثيراً من يغنيك الحر القائظ عن النار والكهرباء والوقود الذي تتضاعف أسعاره، فيغلي لك ماء الحمّام، ويقلي لك البيض، وهو الماء الأفضل لنقع الحمص والفول والترمس !
وللحر منزلة في الشهور إذ سمي به شهر معظم يقال له رمضان الذي سمي بذلك لشدة رمضه أي حرّه، وكأن ارتفاع الأجر وعظم الثواب يكون مع مشقة الصيام في الحر !  

وما زالت الصحائف ممتدة في الحديث عن الحرّ أمتعكم الله به ... !

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق