الخميس، 15 ديسمبر 2016

السردين

السردين !
وأطيب موائد السمك صينية أفراخ سمك السردين الصغيرة التي نسمّيها "البذرة" تبهّر بالبهارات ويقطع حولها البصل وتملح وتخلط بالطماطم الطرية الطازجة، ثم تجعل في الفرن، أو يقلى السردين المتبل في مقلاة الزيت ، فتزرد السمكة الصغيرة مرة واحدة دون أن تسحب حسكة منها فحسكها طريّ شهي!
وإذا كبر السردين وأصبح شبراً فإنه مثاليّ للفسيخ، تملّح جوفه المفتوح بالملح الصخري، وتنشره على سطح المنزل ثم تخزنه في وعاء مضغوط خالٍ من الهواء ، ثم تأكله بعد حين نيئاً أو مقليّاً ، وبعضهم يجعل أكله من شعائر أول أيام العيد الاجتماعية .
وكنت أظن السردين كلمة حديثة العمر ، وهي أقرب ما تكون في مبناها إلى جزيرة سريدينا الإيطالية الجنوبية في غربي البحر المتوسط جنوبي جزيرة كورسيكا ، وهكذا قالت بعض المعاجم الحديثة، إلا أنني وجدت استخداماً قديماً لها في مصادرنا العربية فقد ذكرت المصادر الأندلسية أن الخليفة الحكم الأندلسي أحصى كل ما يباع له بقرطبة من السمك المسمى بالسردين المجلوب من ذلك الساحل خاصة ، وتحدث لسان الدين ابن الخطيب الغروناطي عن سردين مدينة مرلة الأندلسية، ثم وجدت ابن بطوطة يذكر السردين في موضعين من رحلته إلى الهند وبلاد المليبار ، وقال إن أهل تلك المناطق يطعمون دوابهم وأغنامهم منها، وتحدث أنهم يأكلون السردين النيء المملح.
وبما أنني وليد البحر فإن أكثره كان يأتينا أولَ الشتاء في أسراب هائلة قرب الشواطئ الأكثر دفئاً من جوف البحر البارد تنتظرها زوارق الصيادين الخشبية بشباكهم القديمة تحيط بها من كل جانب ، وما زلتُ أذكر كيف تُلقى منه المئات في الساحل وقرب أسواق السمك فلا نكاد نستطيع الاقتراب منها لكثرة الذباب وشدة الروائح العفنة ؛ وأذكر أن أمي كانت تصنع منه الفسيخ أحياناً وتكلّفني بنشره فوق شوال منسوج في أعلى سطح المنزل بعيداً عن الظلال ، وكانت رائحته في أول التنشيف شديدة قاسية !
ولا يتخذ الفسيخ من السردين فحسب بل يصنعونه من البوري والرنجة من أسماك البحر، ولكن السردين هو الأشهى عندنا؛ ويمكن أن تصنعه الناس من أسماك المياه العذبة ، وما يزال نوبة السودان ومصر يصنعونه ولهم فيه تقاليد عريقة تعود إلى حقب فرعونية قديمة فتجدهم يسمونه "الملوحة" وهي الفسيخ الصعيدي ويصنعونه من سمك الكلابي، ويتناولونه في شم النسيم أكثر، ومنه نوع أشد فتكاً أكلتُه في حلفا في أقصى شمال السودان على ضفة بحيرة النوبة على الحدود مع مصر يقال له "التركين"، وأكثر فسيخ السودان النيلي من سمك الكوارة والكاس ، وأشهاه اليوم ما تصنعه السيدة هدى على ضفة سد جبل أولياء جنوبي الخرطوم.
وفي تاريخنا القديم نجد أن محمد بن مروان شقيق الخليفة عبد الملك صادر بحيرة خلاط في أرمينية للاستيلاء على إنتاجها من سمك الطِّرِّيخ الصغير الموسمي الذي يملّح ويصدّر إلى بلدان كثيرة في العراق وفارس وجزيرة العرب .
وورد في آثار الصحابة معرفتهم بالسمك المملح المعروف بالصّير كما في حديث المعافري المصري مع عبد الله بن عمر بن الخطاب في حضرة أم المؤمنين زينب كما في سنن البيهقي؛ وفهمنا من هذا الأثر أنه طعام ينتشر بمصر ، فعرفنا أنه الفسيخ ؛ ومن هذا الصير المملّح يصنعون طبق " الصَّحْناة " وهو إِدام مطبوخ معروف في العراق أكثر؛ وقد فسّر التابعي الجليل سعيد بن جبير طعام البحر في قوله تعالى ( أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَّكُمْ ) بأنّه الصّير، كما في تفسير الإمام الجليل الطبري .

ثقافة هدم الآثار !

(وعندما أصبحت النصرانية دين دولة القسطنطينية الرسمي أمر القيصر ثيودوز في سنة 389م بهدم جميع تماثيل الآلهة المصرية القديمة، ومعابدها وجميعِ ما يذكِّر الناسَ بها ، واكتفى بتشويه كتابات المعابد المصرية التي كانت من المتانة بحيث لم يقدر على هدمها؛ وما تزال مصر ملأى بأنقاض ذلك التخريب الذي أملاه التعصب ، وتعد تلك الأعمال من أفظع ما عرفه التاريخ من أثر عدم التسامح والبربرية ، ومن دواعي الأسف أنْ كان من بواكير أعمال ناشري الدين الجديد الذي حل محلّ دين الإارقة والرومان هدمُ المباني التي احترمها أكثر الفاتحين منذ خمسة آلاف سنة ).
حضارة العرب غوستاف لويون 206


هل نقول: يقبع الأسير في سجنه ؟

تستفزّني حميّة الغضب عندما أقرأ لأحدهم أو أسمع له كلمة في حق أسرانا في سجون الاحتلال إذ يقول: إنه يقبع في سجون المحتل !
أكاد أرتجّ من سوء استعمال هذه الكلمة ، وهي كلمة مصورة مأخوذة من متأدِّبة الزمن الحديث فلا تكاد تجد لها استعمالاً قديماً، لكون استخدام "قبع" لا يكاد يكون إلا في سياق نفسي واجتماعي فيها إهانة وذل وربما ورَدَ عليها الألمُ والهمّ ... فالقنافذ تقبع أي تدخل رأسها مستخفِيةً في جلدها الشوكيّ خوفاً وحذراً وتتدوّر على نفسها ابتغاء السلامة ، وهذا لا يليق بأسير مناضل منافح ؛ والخنزير يقبع ويخنخن عندما يجرّ أنفاسه إلى صدره ويُصْدر صوتاً من جوفه الممتلئ بالقذارة وهو ما لا يفعله أسير غافَلَه عدوُّه فتمكّن منه؛ والطير البغاث الصغير ينقبع إلى جحر جرَذ قبيح إذا ضربه غلام بحجر ... ونحن نعلم أن التشبيه لا يقتضي المشابهة لكن وجوه الشبه إذا احتشدت على مساءة فلا ينبغي إلحاقها بما هو شريف نبيل.
وكأني بهؤلاء المتأدبة قد جعلوا من السجن قميصاً يقبع فيه لابسه إذ يدخل رأسَه فيه ؛ وللأمانة فقد جعلوا تلك الكلمة مرتبطة بالمتهم السجين الذي يعاقَب على جريمته فيتلبّس بالمهانة والذل ، ثم وجدنا الناس يعممونها على كل سجين وأدخلوا فيهم الأسرى بجامعِ سلْبِ الحرية لكليها ، وشتّان ما هما ؛ فالتقبّع مقترنٌ بالتفزّع والمهانة والقلق والرعشة والتحيّر .
والرأي عندي ألا تستخدموا هذه الجملة: يقبع الأسير في سجون الاحتلال ... إذ هي لا تليق به ، ولا حاجة لاستخدامها في هذا المقام بالمرّة.  

أيّ الصامتين أنت !

لطالما صنّف الحكماء الصمتَ على أنه من مراتب المكارم العالية، وجعلوه من طباع العقلاء، وجعلوا ترك الصمت من صفات الأشقياء، وأفاضوا في تحسين الصمت؛ وفاتهم أن ثمّة صمتاً هو كالداء العضال لا يقترن بحكمة ولا مكرمة ولا عقل ولا فضيلة، وهو أنواع كثيرة؛ ويجمعها كلها شر كبير وهو أن الصمت أكثر علاجات الغضب نجاحاً ، وهو بداية التدجين ، وشريعة الترويض، ومن أنواعه :
صمت البقاء: إذ يظن المرء أن الصمت ينجيه من غيابة الحبس والتعذيب فيطيل الصمت حتى يأْسَنَ ماؤه ويفسد طبعه فيكون هو خشبة الكرسيّ سواء ، فيقولون: الصمت حكمة قليل فاعله، ومن حفظ لسانه أراح نفسه ... .
ومنه صمت التواطؤ وهو أن يكون قادراً على الفعل المغيِّر أو الكلام المؤثِّر ولكنه يؤخرهما فيصمت في الحين لتمرير جريمة مقابل مصلحة .
ومنه صمت العجز ، وهو الذي يتوجّع صاحبُه من الحديث فيه ، ويرى أن الحديث - وهو مقيد اليدين عاجز عن مدّ يد المساعدة - يثير نفسه ويحزنها ويصيبها بالكآبة ، ويدفعها للإحباط فيلجأ للصمت راكناً إلى جنب بعيد يبكي على نفسه .
ومنه صمت القرَف : وهو ذاك الشخص الذي لا يملك التأثير بفعله فيكثر الحديث حتى يملّه الناسُ ويملّ من الناس ، فيتحوّل الكلام عنده إلى معنى فَطِير ، ويرى ألا قيمة فيه ، فيؤثر الصمت وينكبّ على الفُرْجة والاستماع.
ومنه صمت السياسة: إذ يعلم أن سكوته على أمر سيدفع به نحو تأمين محلّه ، وإبعاد نفسه عن مشهد ملتهب قد يضره الخوض فيه فيطوي ما يراه ويسمعه ويفتح صفحة جديدة ، ويرى أن الصمت خيار المصلحة .
ومنه صمت الغافل الذي لا يعنيه شيء ولا يهتم لكارثة أحد ما دامت لم تحلّ عليه ويقول دائماً : اللهم حوالينا ولا علينا ... .

وفي الجملة فأنواعه المعدودة بحسب الأحوال تكاد تبلغ المائة أشرت إليكم بطرف منها .