السبت، 23 يوليو 2016

الدليب نخيل الغرب السوداني !

مررتُ بأحدهم يفرش بضاعته في الطريق ، كان يعرض نوعاً معروفاً من الفاكهة " الشمام" ونوعاً آخر غريباً ؛ ظن أنني سأختار الشمّام المشهور  فكيف لمثلي أن يعرف "الدُّليب" تمرة الغرب السوداني !

ثمرة بنية اللون أقرب للبرتقالي إذا نضجت ، استدراتها كاستدراة جوز الهند أو ثمرة الشمام، لها قشرة غليظة ، وقشرة أغلظ في ناحية تدلّيها من الغصن !
تحتاج لقوة في فتحها، ثم ستجد في داخلها ثلاثة من البذور الكبيرة التي تشبه بذور ثمرة المانجو  تحيط بها ألياف برتقالية قاتمة حلوة الطعم ولكنك لا تستيطع فصلها عن البذور لقوة أليافها !

فإما أن تشدّ عليها بأسنانك وتمصّها مصّاً أو تنقعها في ماء لتتحول مادتها إلى عصير منقوع ، واحذر من أن تتركه طويلاً في الحر فما أسرع ما يتخمّر ويصبح شربُه حراماً ؛ وسمعتُ أن بعضهم يطبخ هذه الألياف مع الأرز ويقولون إنه يصبح لذيذاً جداً .
كانت رائحة الدليب نفاذة جداً وتكاد تسيطر على البيت من سرعة انتشارها وقوة حضورها ، ولم يستطِب الأهلُ رائحتَها الغريبة القوية .
إذا كانت الدليب خضراء فيمكن أن تجد داخلها الماء الحلو الزلال، وبذورها غير الناضجة تحتوي مادة هلامية لذيذة الطعم أيضاً .
شجرة الدليب هي من أنواع النخيل الاستوائي ، ذات الأوراق المروحية التي يصل طولها إلى 3 أمتار ... كل نخلة تحمل 8-15 عنقوداً من الدليب، ويمكن أن تحمل الشجرة بعناقيدها نحو 80 دليبة سنوياً.

أوراق الدليب تستخدم علفاً للماشية ، وهي مفيدة لبحّة الصوت أيضاً، ويستخدمونها لسقف المنازل البدائية.
أخشابها الطويلة التي يصل طولها إلى أكثر من 50 متراً يجعلونها أعمدة للبيوت لأن النمل الأبيض لا يقربها، ويستخدمونها في هياكل القوارب وبناء الحظائر ... كما سمعت أن بعضهم يقطع الساق بنحو متر ويفتح فيه تجويفاً ثم يثبته على شجرة أو تلة عالية فسيتقطب النحل البري الجوال ، ويكون فرصة لإنتاج العسل البري الشهي.
كما أن أكل الدليب كثيراً يبيض الأسنان ويجلوها .
والدليبة في العامية السودانية هي الكذبة الكبيرة تشبيها لها بصوت سقوط ثمرة الدليب الشديد على الأرض حتى إن الناس يتجنبون المرور تحتها خوفاً من سقوط دليبة عليها وصوت الارتطام أصبح إيقاعاً إفريقيا مشهورا باسم الدليب .
كما يضرب بها المثل في قلة انتفاع من يقوم على الاعتناء بها إذ إن ظلها لا يكون لصاحبها بل يكون للبعيد بسبب طول ساقها فيقولون : فلان مثل ظل الدليب .


الجمعة، 22 يوليو 2016

الشافعي المشتاق إلى غزة !

ثبت لأهل غزة وما حولها من الشرف أن إمامنا الشافعي رحمه الله قد ولد بها ، ولا ندري موضع ولادته بالضبط فقد أخرجته أمّه الأزديّة صغيراً منها وهو دون العامين بعد وفاة والدة وذهبت به إلى مكة ، ثم ترحّل في الأرض نحو العراق واليمن ومصر وليس له ذكريات طفولة في غزة ولا أصحاب إلا ما يكون في المرء من حب استطلاع للمكان الذي نبت منه ، وقد ذكر ياقوت الحموي المتوفى سنة أي بعد نحو أربعمائة عام من وفاة الشافعي التي كانت في 204 هـ روايةً بصيغة التمريض (يُرْوَى) أن الشافعي قد تشوّق إلى غزة فقال فيها:
وإني لمشتاق إلى أرض غزةٍ ... وإن خانني بعد التفرق كِتماني
سقى الله أرضاً لو ظفرتُ بتربها ...كَحَلتُ به من شدّة الشوق أجفاني
ثم وجدنا ياقوتا الحموي نفسه في مادة ( طنزة) من معجمه البلداني الكبير وهي بلدة في ديار بكر شرقي تركيا في الجزيرة الفراتية ، يثبتها لإبراهيم بن عبد الله الطنزي نقلاً عن كاتب صلاح الدين الأيوبي الشهير بالعماد الأصفهاني ، ولمّا رجعنا إلى كتاب الأصفهاي المطبوع "خريدة العصر وجريدة القصر" وجدناه يثبت البيتين للطنزي وأنه وجدهما بخط الطنزي نفسه:
وإنّي لمشتاق إلى أرض طَنْزَةٍ ... وإن خانني بعد التفرُّق إخواني
سقى الله أرضاً لو ظَفِرْتُ بتُربها ... كَحَلْتُ بها من شدة الشوق أجفاني
ثم شاع البيتان أنهما للشافعي مع تغيير بدائي مكشوف في عجز البيت الأول وبتغيير (طنزة) إلى (غزة) بعد إشارة ياقوت الذي أوردها بصيغة التضعيف دون ذكر من نقل له ذلك، وكأني به ينقلها عن خطيب جمعة أو قاص حكاية أوردها على سبيل المشاكلة لغاية الإمتاع والظرافة .

ولم أجد أحداً من القدماء ذكر البيتين للشافعي ، ولا يغرنّك أن البيتين مذكوران في ديوان الشافعي فمعظم دواوين الشافعي المنشورة تخلو من أي تحقيق علمي في نسبة الأبيات إلى صاحبها، بل إن كثيراً من أشعار الديوان ليست للشافعي، وقد غرّهم ورودها في مخطوطات متأخرة للديوان تعود للحقبة المملوكية صنعها مؤلفوها دون تثبّت ، لاسيما أن الناس ولاسيما من القصاص ظنوا أن كل أشعار الحكمة يصحّ نسبتها للشافعي ، وما يثبت للشافعي من الشعر قليل مذكور في تراجمه القديمة .

سر الذبابة الشجاعة !

كثيرون لا يحبون الذباب فهي وإن كانت رشيقة لطيفة إلا أنها مجنونة مسترذلة مستقذرة منحطّة القدْر سيّئة السمعة ، بسبب انتهازيتها وقبح مطالبتها وإصرارها على التدخّل في خصوصيات غيرها من جنسٍ غير جنسها ، والتصاقها بصاحبها كالصمغ الدبق ، ولو كانت كأختها النحلة المعطاءة لأحبّها الناس وعظّموها.
وكنتُ أقول لأُصَيْحابي: إذا أردتَ خروج الذباب من دارك فافتح له نافذة ضوء باهر فإنه يحب الضوء ويتبعه، وليس كالبعوض الذي يتوحّش في الظلمة ويسود فيها .
والذباب لا يحب البرد لذلك لا تجده نشطاً فظّاً إلا في مواسم الصيف ، وكثيراً ما تشتاق في مواسم البرد لضرب ذبابة بمضربك البلاستيكيّ ، وكم تطرب وتتفاخر إذا نال مضربك خمسة أو تزيد من من تلك الطيارات الهائجة.
وكان الأجداد يقولون إن الذباب لا يطيق أن يكون في دار البعوض ، ولا يجتمعان معاً في مربع واحد صغير ، فإذا تواجها كانت الغلبة للذباب .
وجسد الذبابة مصنوع على هيئة المحارِب الجريء ، بدرع صلبة خفيفة مرنة ، وأقدام طويلة لاصقة ، وعيون بحّارة ناظرة في كل الاتجاهات، وأجنحة شفافة مركّبة على قاعدة متحركة ، مع قدرة تعقُّب هائلة ، وقدرة مناورة لا مثيل لها .
والذباب شجاع لا يجبن عن معركة ، ولا ينسحب أو يتولّى عن زحفٍ متقدِّم إلا لكي يكرّ من جديد ،فإما أن تنال منه عضّة أو مصّة أو لمسة وإمان أن يموت دون هدفه ، ولذلك لا ترى ذباب قط تموت وحدها إذ لا بدّ من قاتلٍ ، ونقطة ضعف الذبابة هو نقطة قوتها إذ إن مخاطرتها تنتهي بموتٍ فظيع تتمزق فيه وتنسحق .
ولذلك تجد الذبان يتعب كثيراً في نهاره لذلك يستريح في ليله كله ، وينشط مع شقوق خطوط الضياء. 
وقد ضربوا المثل بقوة إبصار الذبّان إذ إن الضربات المتلاحقة لا تكاد تصيبها ، وهي كثيرة المراوغة، عجيبة المناورة ، ذات سرعة طيّارة ، فلذلك كان قدماء الأطباء يسحقون بدنها مع الإثمِد ويكحلون به العين ، فتتقوّى الجفون وينشط عصب الإبصار ويقوَى.
وهو شمّام عجيب وأكثر ما يشدّه هو رائحة الشواء والدم ، فهو عنيف بالفطرة يبحث عن المعارك والحروب ويغرز أقدامه في مجاري الدماء وينقل في أقدامه وأجنحته الطاعون والوباء ، كما يحمل بيوض ديدان الموت التي تحلِّل أجساد الموتى في قبورهم .
وأشدُّ ما تخشاه الذبابة أن تموت بنهيق الحمار  لذلك تبتعد عنه كثيراً إلا إن كانت ذبابة صغيرة غير مجرِّبة لم تتعلم من أسلافها وآبائها، وهناك ذبابة انتحارية يقال لها النعر مهمتها أن تدخل أنف الحمار فتقتله لئلا يقتل بني جنسها .
ولطنين الذباب إيقاع غريب ، ولو ركّبه أحد في نوتة وحلّله لوجد فيه لغةً منغّمة ، وأحسب أن في تحليلها تفكيكاً لشيفرات معقّدة تتناول تجارب المخاطرة والمغامرة ، لذلك قالوا إن أحداً لا يستطيع فهم لغة الذباب إلا كان خائفاً قلقاً.
وإذا أحببت سماع صوت ذبابة فارتقِبْ يومَ سقوطها في شبكة عنكبوت أنثى جائعة فستسمع طنينها المتوحِش يتألّم ويرفض الخضوع .
وقد جعل الله في هذه الذبابة عجباً فجعل الدنيا لا تساوي عنده جناح بعوضة ، وجعل في جناحها المرض والشفاء منه ... أي أنه جعل فيها التعادل ( ضعف الطالب والمطلوب) ! 

الشافعي السياسي

من المشهور أن كبار علمائنا من السلف الأول كانوا يمتنعون عن السلطة والقضاء ، ولا يحبون الاقتراب من حاشية السلطان ، وكانوا يخشون من الفتنة بالسلطة واحتسابهم من أعوان السلطان .
في واقع الحال فإن هذا الواقع قد دفع بأنصاف العلماء وعلماء السوء من أخذ مكانهم براحة إلى جوار السلطة دون منافسة وقاموا بمهمة تمثيل الجانب الديني الاجتماعي لتبرير أفعال السلطة .
في التجارب القليلة المذكورة فإن حضور العلماء المسيَّسين ذوي الرسوخ العلمي لدى السلطة السياسية قد وفّر لنا محطات تاريخية ما زالت حاضرة الأثر، فرجاء بن حَيْوة وهو تابعي فلسطيني جليل كان إلى جوار الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان وابنيه الخليفتين : الوليد وسليمان، كان سبباً في تولية الصلحاء في مراكز سياسية متقدمة بل إ له الفضل الأكبر في إقناع سليمان بن عبد الملك بتعيين عمر بن عبد العزيز في منصب الخليفة .
الإمام الشافعي رحمه الله خلافاً للأئمة الثلاثة سعى للسلطة سعياً بل إنه طلب مساعدة أمه في رهن منزلهم للسفر في سبيل ذلك ، فاقترب من إدارة ولاية اليمن التي كانت تشمل مكة فعمل مع واليها حتى طار ذكرُه في حسن الأداء وتمام الإنجاز، ثم تولّى نجران مدة عامين ، وقد تحدث الشافعي عن اختلاف بعض التابعين في موقفه من السلطة فبعضهم انتقده وآخرون شجعوه ، وكان من جملة مَن أثني عليه الإمام الجليل سفيان بن عيينة وكان تشجيعه مصحوباً بالتحذير من الثقة بهؤلاء وهو ما كان في مرحلة لاحقة.
وهذا مقام آخر مهم يجدر ذكره فقد كان لمكانة الإمام القاضي الفقيه محمد بن الحسن الشيباني صاحب أبي حنيفة لدى الخليفة هارون الرشيد الدور الكبير في توفير مظلة حماية للشافعي ذي الثلاثين عاماً عندما حرّض عليه والي اليمن واتهمه بموالاة العلويين ضد الدولة العباسية وحمله مقيّداً من اليمن إلى بغداد .

لقد كان لتجربة الشافعي السياسية الأثر البالغ في فقهه الواقعي، كما أن راتبه من عمله السياسي ساعده على تحسين وضعه المعيشي ووضع أهله وتلاميذه ومنحهم فرصاً للتفرّغ العلمي مما ساعد على انتشار مذهب الشافعي لكثرة تلاميذه وهو الأمر الذي لم يستطعه مجتهدون كبار من طبقته ومن طبقة بعده .

الأربعاء، 20 يوليو 2016

أبو إسحاق الغزّيّ متنبي فلسطين !



ولد الشاعر أبو إسحاق إبراهيم بن يحيى بن عثمان الكلبي الغزي في مدينة غزة عام 441 هـ ، وفيها نشأ، وتلقى تعليمه الأوليّ ، ثم دفعته ظروفه ، وسوء الأحوال السياسية في بلده قبيل الاجتياح الصليبي لفلسطين إلى دمشق، وأكمل تعليمه فيها على يد أحد علماء بيت المقدس المهاجرين وهو نصر بن إبراهيم المقدسي،  ثم ارتحل إلى بلاد فارس وخراسان وكَرْمان و أواسط آسيا حيث أمضى هناك بقية عمره حتى وفاته.
وله ديوان كبير بتحقيق الشاعر والأكاديمي المقدسي الدكتور عبد الرزاق حسين، وكان شعره كثيراً سائراً ببلاد الجبل وخراسان كما يقول الذهبي الذي وصفه بشاعر العصر وحامل لواء القريض، وهو مشهور بكثرة استخدام فنون القول البديعي واحترافه ومهارته فيها .
وكان يتشوّق في غربته الطويلة إلى أرضه وموطن صباه الذي لم يعدُ إليه، فيقول في تذكّر رحلة له بين غزة وعسقلان :
أين دعواك والغواني عواني   والمعاني واللفظُ حاز المعاني
ونَواكَ الشُّطُون إزماعَكَ الرحـ  ـلةَ من غزة إلى عسقلان
ويظل يذكر غزة أمام الأمراء والسلاطين من ممدوحيه :
قصدتُكَ لا بالشعر من أرض غزةٍ   ولكن بقولي إنني لكَ آمَلُ
ويحكي أن سبب هجرته من غزة هو بعض الأشخاص :
لولاه ما فارقتُ غزةَ هاشمٍ   والشوقُ يحملني على بُرَحائه
ويحكي في شعره متذكّراً أيام صباه الجميلة على أرض غزة:
ما كان أقصرَ عيشاً رقَّ حاشيةً وموعداً غيرَ موسومٍ بإخلاف
أيامَ كنتُ أميراً في برود صِبا  تصبي الكعابَ بأعلام وأفواف
وحَيُّ غزةَ حيُّ العز منتظمٌ  كعقدها من خيامٍ بين أحقاف
ومن روائع تشوّقاته إلى غزة:
وجدّد كربي ذكرُ غزّة هاشم 
وما جدّ بي من شوق تلك الملاعب  
مقام هوى قلبي ومسقطُ هامتي 
ومعنى صباباتي ومغنى أقاربي  
ذكرتُ بذاكَ الرّبع عيشاً طويتُه 
على غرَّة والعيشُ كسوةُ سالب  
ونَدمة قومٍ لا ندامةَ عندهم
من العمر والدّنيا على فوت ذاهبِ  
تُحلّى صدورُ الكتب حتّى تخالها 
إذا أسهبوا فيها صدورَ الكتائبِ  
لئن فلقّوا هامَ الصَّناديد في الوغى 
فقد فلّقوا في المحل هامَ المساغبِ  
ومنْ لي بهمْ لو أيسروا فدعوتهم 
لتخليص شلوي من نيوب النوائبِ  
عسى بينَ أحشاءِ الليالي عجيبةٌ
حبالى الليالي أمّهاتُ العجائبِ  
إذا شاء حلَّ العقدة اللهُ ناطها 
بمسعى ميامين الخُطى والنَّقائبِ  
وهو يحمّل الذاهبين إلى غزّة رسالة مشتاق هدّه البعد:
عرِّج على نفر بغزّة هاشم
صبروا وقِدْحُ الصّابرين منيحُ  
ومتى سُئلتَ فقل رأيتُ متيماً 
لبسَ الشحوب طرازهُ التَّلويحُ 
ويتحسّر على أيامه الأولى بغزة قائلاً:
أينَ أيّامنا بغزَّة والعيـ
 
ـشُ نضيرٌ واللهو رحبُ المجال
  
عاش أبو إسحاق الغزي في ظل الدولة السلجوقية حتى مات في خراسان سنة 524 هـ ودفن في بلخ ، وعمره نحو 83 عاماً ، ونقل عنه أنه كان يقول لما حضرته الوفاة: أرجو أن يغفر الله لي لثلاثة أشياء: كوني من بلد الإمام الشافعي، وأني شيخ كبير، وأني غريب.



لماذا نرفض حكم العسكر !

يأتي أحدهم ويقول: إن هؤلاء الجنود يقدّمون أغلى ما يملكون في سبيلنا فواجبٌ علينا أن نقدّم لهم أعلى ما نملك في سبيلهم !
كان كائناً فصيحاً يطرب الناس لمختار كلامه ويظنونه ينطق بالحكمة المطلقة ، فهؤلاء العسكر هم حرّاسنا وحماة ثغورنا ، لولاهم لما كان هناك استقرار ولا أمان ولا دولة !
بهذه الكلمات كان يخدع الناس فإن أحدنا لا يعترض على رفع مقام العسكري والاحتفاء بنضاله في سياقه العسكري النبيل ، إنما اعتراضنا على وضعه في غير سياقه الذي يُحْسِنه ويليق به ، فمداخل السياسة والمجتمع غير مداخل العسكر والأمن ، ومخارج هؤلاء غير مخارج أولئك .
باختصار:
 نريد ممن يحكمنا إذا اختلفنا معه أن يتعامل معنا بمنطق الربح والخسارة لا بمنطق النصر والهزيمة ؛ إذا رأى أننا نصيب في معارضتنا فإنّه يَزِن كلماتنا وسلوكنا فيقترب منا إذا رأى مصلحة راجحة ولو كانت قليلة ، ويدعُنا نعارضه إذا وجد في كلماتنا وسلوكنا اتجاهاً نحو الخسارة ، فكل شيء عنده موزون بالنسبة.

ولا نريد حاكماً يرى في معارضتنا له عداوةً فيتعامل معنا كالأعداء فيقرر هزيمتنا والانتصار علينا والوقوف على جثثنا ، ويرى في ذلك حمايةً للشعب ووفاءً للوطن !

نريد هويّة وسطاً منيعة ذات أخلاق ، وهي هوية لا تتربّى إلا في بيئة الحرية ، وبيئة الحرية لا تتعايش مع بيئة العسكري الذي يعتاد نمط إلقاء الأوامر أو تلقّيها، ويستجيب لها بالسمع والطاعة وإذا قصّر فيها عوقب بالسجن أو طلقة في رأسه . 

الاثنين، 18 يوليو 2016

في منزل الإمام الشافعي !


في منزل الإمام الشافعي !
(1)
إذا أردتَ أن تتخيّل الإمام الشافعي فانظر إليه : كان نحيفاً معتدل القامة يميل إلى الطول لطول عنقه، أسمر البشرة ، له عارضان خفيفان يصِلان شعر رأسه بشعر لحيته ، وله لحية لا تزيد عن قبضة يده، وبين أسنانه فلجات (فتحات) جميلة، تُشعِرك بلطفه وخفّة دمه   
كان نحيفاً لكثرة أسقامه وأمراضه، وعلى أنفه أثر من مرض جدري الماء المنتشر قديماً، وكان يلبس عمامة كبيرة كأنها عمائم الأعراب ، تكبّر صورته أمام الناس وهو النحيف المِسْقام .   
له صوتٌ جميل قويّ كالجرس تنشدّ له الآذان وتسترخي من حسنه .
كان للشافعي زوجة واحدة اسمها حمدة بنت نافع وهي من حفَدة الخليفة الراشد عثمان بن عفان – رضي الله عنه ، وكانت له جارية أيضاً يقال لها دنانير، وليس له من الذكور سوى اثنين، والطريف أن كليهما يحمل اسم محمد مثل اسمه، لشدّة ما يحب هذا الاسم، وكان يفرّق بينهما بالكنية، فالكبير يكنى بأبي عثمان على اسم جده لأمه ، والثاني أبو الحسن، وكلاهما كانا من القضاة، وقد مات أولادهما الذكور صغاراً ، فليس للشافعي ذرية تحمل اسمه، وكان له بنت واحدة يقال لها زينب، تزوجت من ابن عم لوالدها اسمه محمد أيضاً ، وأنجبت منه فقيهاً ذكيّاً سَرَتْ إليه بركة جدّه في العلم والفهم ، وهو معروف في كتب الشافعية بلقبه : ابن بنت الشافعي واسمه أحمد بن محمد بن عبد الله ...
مات الشافعي رحمه الله وهو في منتصف الخمسين من عمره وكان يعاني من نزيف حاد ، نتيجة مرض البواسير ، والعجيب أن مرضه الطويل لم يمنعه عن الدرس والاجتهاد ونشر العلم حتى غدا إماماً مشهوراً مذكوراً .

عقل النفير !

هناك استنفار عام تعلنه السلطة وتستخدم فيه أدواتها لخروج الناس والتعبير عن توجهات السلطة المفروضة على الشعب، وهو استنفار استعراضي لا عمق فيه .
وهناك نفير عام يمارسه الشعب بتلقائية ومباشَرة إثر شرارة فاصلة تغير النمط المرتخي السائد إلى نمط ثوري يدفع الناس إلى سلوك جماعي متّفِق في المضامين والوسائل والاتجاه العام والهدف المباشر .
ما جرى في شرارات ثورات الشعوب العربية في مصر وسوريا وتونس واليمن وليبيا ثم ما جرى مؤخراً في تركيا يوضح لنا أهمية التثقيف القيمي المتواصل وبناء الشعارات عبر تراكم الجهد وعدم إهمال هذا الجانب بانفتاح مهما اشتدت الظروف وصعبت .

الاستثمار في إعداد عقل النفير هو من الملفات الاستراتيجية التي تغفل عنها الحركات الوطنية والتنموية نتيجة انهيار التعبئة الثقافية المبنية على القيم ، وهذا ما يجعلنا نصرّ دائماً على بناء منظومة قيم جامعة وتعميمها ضمن رؤية ذات سياق تنفيذي قابل للتحقيق ، وعدم مجاملة من يحبطون هذا الجهد احتجاجاً بأنه تنظير ومثالية .

الأحد، 17 يوليو 2016

إزالة الأوهام عن حديث " حدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج"


عندما تتأمل بحديث " وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج " فلا شك أن المعنى التلقائي الذي تفهمه هو إباحة الحديث المفتوح عنهم بكل ما عندهم من غرائب وعجائب وربما أباطيل وأكاذيب ، وأكثر ذلك ما يورده المفسرون والإخباريون من قصصهم الغريبة الباطلة في أرض فلسطين ، فيثبتون للصهاينة ما لم يستطيعوا إثباته في مجالات الجغرافية والتاريخ والآثار بما يؤكد مقولتهم الكاذبة في أحقيتهم بأرض فلسطين بمنطق التاريخ .
 ولذلك الفهم التلقائي أخذ العلماء بظاهر هذا الحديث وأباحوا الرواية مطلقاً عنهم معلّلين ذلك بأنه للعبرة من قصص الأقدمين ؛ بل إن بعضهم جعل معنى قوله " ولا حرج " أي لا ضيق عليكم ولا إثم بترك الحديث عنهم ، وكأن الرواية عنهم باتت فضيلة واجبة يفوّتها المرء بترك معرفتها بل ونشرها.
وقبل أن أقف على معنى الحديث فلننظر معاً إلى ما قاله ترجمان القرآن وحبر الأمة عبد الله بن عباس في هذا الشأن ، ونحاول أن نفهم هذا الحديث على ضوء تفسير ابن عباس ، يقول : (كيف تسألون أهل الكتاب عن كتبهم، وعندكم كتاب الله أقرب الكتب عهداً بالله، تقرؤونه محضاً لم يُشب). رواه البخاري ؛ وفي رواية أنه قال: " يا معشر المسلمين، كيف تسألون أهل الكتاب عن شيء، وكتابكم الذي أنزل الله على نبيكم أحدث الأخبار بالله محضاً لم يُشب، وقد حدثكم الله أن أهل الكتاب قد بدّلوا من كُتُب الله وغيّروا، فكتبوا بأيديهم قالوا: هو من عند الله ليشتروا بذلك ثمناً قليلاً، أوَلا ينهاكم ما جاءكم من العلم عن مسألتهم؟ فلا والله، ما رأينا رجلاً منهم يسألكم عن الذي أُنْزِلَ عليكم". رواه البخاري
ويشرح ابن عباس معنى كلامه بتفصيل أوضح في الرواية الأخرى التي أوردها ابن أبي شيبة في مصنفه عن ابن عباس : لاَ تَسْأَلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ عَن شَيْءٍ فَتُكَذِّبُوا بِحَقٍّ ، أَوْ تُصَدِّقُوا بِبَاطِلٍ ، فَإِنَّهُمْ لَنْ يَهْدُوكُمْ ، وَيَضِلُّونَ أَنْفُسَهُمْ ، وَلَيْسَ أَحَدٌ مِنْهُمْ إلاَّ فِي قَلْبِهِ تَالِيَةٌ تَدْعُوهُ إلَى دَيْنِهِ كَتَالِيَةِ الْمَالِ.
بل ورد النهي المباشر عن كتابات أقاصيص اليهود : عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ أَتَاهُ عُمَرُ، فَقَالَ: إِنَّا نَسْمَعُ أَحَادِيثَ مِنْ يَهُودَ تُعْجِبُنَا، أَفَتَرَى أَنْ نَكْتُبَ بَعْضَهَا، فَقَالَ: «أَمُتَهَوِّكُونَ أَنْتُمْ كَمَا تَهَوَّكَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى، لَقَدْ جِئْتُكُمْ بِهَا بَيْضَاءَ نَقِيَّةً، وَلَوْ كَانَ مُوسَى حَيًّا مَا وَسِعَهُ إِلا اتِّبَاعِي» رواه أحمد
وانظروا إلى كلام رسول الله فيما رواه أبو داود (ما حدثكم أهل الكتاب فلا تصدقوهم ، ولا تكذبوهم ، وقولوا : آمنا بالله ورسله ، فإن كان باطلا لم تصدقوه ، وإن كان حقاً لم تكذبوه ) .
وروى البزار بإسناد حسن عن خباب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ' إن بني إسرائيل لما ضلوا قصوا '
يقول الإمام مالك: (المراد جواز التحدث عنهم بما كان من أمر حسن أما ما علم كذبه فلا ) وقيل المعنى: حدثوا عنهم بمثل ما ورد في القرآن والحديث الصحيح كما ذكر ابن حجر العسقلاني في فتح الباري.
والإمام الشافعي فهم رواية الحديث الأخرى التي نصُّها "حدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج وحدثوا عني لا تكذبوا علي" على أن المرويات عن بني إسرائيل أكثرها كذب لا يوثق به ، وأنها في حكم المنتهي العمل به والتعبد به إذ ( ليس في الحديث عنهم ما يقدح في الشريعة ولا يوجب فيها حكما ) لأنها حتى لو حوت ما يقدح في الشريعة فلا اعتبار بها أو لها أصلا ، لأن الحديث عنهم ( ليس ديانة ) فهي لا تفيد العلم ولا البيان الشرعي .
يقول الشافعي في الرسالة : (وهذا أشدُّ حديثٍ رُوِيَ عن رسول الله في هذا، وعليه اعْتَمدنا مع غيره في أنْ لا نقبَلَ حديثًا إلاَّ مِنْ ثِقة، ونعْرِفَ صدقَ مَنْ حَمَلَ الحديثَ مِن حينِ ابْتُدِئَ إلى أن يُبْلَغَ به مُنْتَهَاه... قد أحاط العلم أن النبي لا يأمر أحداً بحال أبداً أن يكذب على بني إسرائيل، ولا على غيرهم، فإذ أباح الحديث عن بني إسرائيل أن يقبلوا الكذب على بني إسرائيل أباح، وإنما أباح قبول ذلك عن من حدَّث به ممن يُجهل صدقه وكذبه. ولم يُبِحْه أيضاً عن من يُعرف كذبه لأنه يُروى عنه أنه "مَن حدَّث بحديث، وهو يُرَاه كذباً فهو أحد الكاذِبَين "  ومَن حدَّث عن كذاب لم يبرأ من الكذب؛ لأنه يرى الكذاب في حديثه كاذباً ...)
وإزاء هذه الأحاديث الواضحة في توضيح معنى "حدثوا ... ولا حرج " يتحدث الإمام ابن بطّال شارح صحيح البخاري بلغة الواثق العارف ، يقول ابن بطال في شرح كلام ابن عباس:  ( لا تسألوا أهل الكتاب عن شئ ) إنما هو فى الشرائع ، لا تسألوهم عن شرعهم فيما لا نعرفه من شرعنا لنعمل به ؛ لأن شرعنا مكتف ، وما لا نص فيه عندنا ففى النظر والاستدلال ما يقوم الشرع منه . وأما سؤالهم عن الأخبار المصدقة لشرعنا ، وما جاء به نبينا ( صلى الله عليه وسلم ) من الأخبار عن الأمم السالفة فلم ننه عنه .
ولكنك عندما تورد الحديث كاملاً في سياقه سينكشف لك معنى آخر مختلف ينسف المعنى التلقائي أعلاه ، فالحديث كاملاً : " بلِّغوا عني ولو آية ، وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج ، ومن كذب عليّ متعمداً فليتبوأ مقعده من النار " وهو حديث صحيح ، ولنَعُدْ إلى قراءة الحديث ثانية مراعين الجمل المتعاطفة وسياق الحديث كله:
"بلغوا عني ولو آية " : أمر بالبلاغ لكل وحيٍ صدر عنه حتى لو كان آية من القرآن في تحدي أدنى نصوص القلة ، وهذا البلاغ يجب أن يكون صادراً عنه – صلى الله عليه وسلم - حتى يصحّ البلاغ به ، وأي خبر إسرائيلي لم يصدر عنه فنحن لسنا مأمورين بإبلاغه .
"وحدثوا عن بني إسرائيل ولاحرج" أي حدثوا عني ما أبلغتكم به عنهم – على سبيل الإباحة والجواز لا الوجوب - ، ولا حرج عليكم في ترك الحديث عنهم مما أبلغتكم به .
" ومن كذب عليّ متعمداً فليتبوأ مقعده من النار " أيّ كذبٍ على رسول الله جزاؤه النار ، لأنه تدخّلٌ في مصدر التشريع ، وأي كذب في النقل عنه يتعرض صاحبه لعقوبة شديدة .
وهذا التشنيع في عقوبة الكذب ربما كانت لردع المتساهلين في نسبة المرويات عن الإسرائيليين إلى رسول الله ، حيث إن رسول الله كان يكثر الحديث عنهم على سبيل نقل تجربة الأمم السابقة التي نزل عليها كتابٌ ، ولبيان حقيقة الإيمان الذي جاء به الرسل إلى بني إسرائيل وحقيقة المواقف الإسرائيلية من دعوة الرسل ، لاسيما أن اليهود كانوا جيران المسلمين في المدينة ، وكانوا في الوعي الشعبي العربي الأمّيّ قبل الإسلام هم أهل الكتاب السماوي والإيمان الربّاني وفق ما يقولونه عن أنفسهم ، ومعرفتهم بالكتب والأخبار القديمة المدونة في كتبهم .
بعد ذلك نقول: لا تحل رواية الأخبار الإسرائيلية إلا بموجب نقل صادق أمين صحيح مسند إلى رسول الله ، وأما غير ذلك فهو حديث خرافة وأسطورة تدرس فقط ضمن الدراسات الشعبية والفلكلور التراثي للأمم السابقة .


الغوارنة

الغوارنة !
جمع غورانيّ ، وهو جمع على غير قياس ، لأن النسبة بالياء كانت على غير قياس ، مثل طبراني نسبة إلى طبرية ، وقيسراني نسبة إلى قيسارية .
وغور الأردن أو غور فلسطين هو ذاك المكان الغوير المنخفض جداً عن سطح الأرض الواصل بين بحيرة طبرية والبحر الميت ، وهو اليوم تقتسمه الحدود بين فلسطين المحتلة والأردن ، ومن أهم مدنه أريحا وبيسان والكرامة والشونة ودير علا  .
وللأسف فقد اقتسم الناس التسمية ، فناحية الغور الشرقية تسمى اليوم غور الأردن ، وناحية الغور الغربية تسمى غور فلسطين ، فيما يسيطر الاحتلال على غور فلسطين بالكامل ، ولم يكن الناس قديماً يفرّقون بينهما ، فغور الأردن نسبة إلى نهر الأردن الجاري فيه ، وغور فلسطين نسبة إلى المنطقة التي يمتد إليها الغور جنوباً إلى البحر الميت حيث إن مناطق شمال فلسطين الحالية كانت تسمى في العقود السابقة الأردن ، وكانت عاصمة الأردن وقصبتها في طبرية ، وكانت سواحل الأردن تصل إلى عكا ، بينما كانت فلسطين جنوبها ، ومن مدن فلسطين آنذاك : القدس والرملة والخليل وبيت لحم وعمّان والكرك والطفيلة ... .
وهو غور خصيب ، تنحدر إليه مياه الجبال الشمالية ولاسيما الجليل الشرقيّ ، وتمدّه بمياه عذبة ، يُولَد منه نهر الأردن ، وبحيرة طبرية ... ، وأهم ما في الغور هو تلك المسمّاة لدى المزارعين بالعقد الشتوي ، حيث إنه ينتج المحاصيل الربيعية والصيفية قبل أوانها بسبب حرارة الغور .
هذه المنطقة كانت مشتى الرومان والغساسنة والمسلمين ولاسيما من خلفاء بني أمية ، وكانت الصّنّبْرة جنوب حطين مشتى للخليفة الأموي معاوية بن أبي سفيان ، وقد اكتشفت آثار قصر أموي قديم له في تلك المنطقة ، وهناك أدار الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان عملية القبض على متنبّئ كذاب تبعه ناس كثيرون يدعى الحارث حتى قبض عليه وقتله .
يمتاز أهل الغور بسمرة البشرة إلى حد السواد ، ويشتهرون بزراعة الموز والنخيل وقصب السكر والبطيخ إضافة للرعي .
يوجد في سهل الحولة الفلسطيني أكثر من عشر عشائر من الغوارنة كانت تسكن في 12 قرية معظمها مضارب من بيوت الشعر قبل النكبة كما يقول المؤرخون ، وعرب الغوارنة ليسوا من أصل واحد فهم خليط من المغاربة وبدو مهاجرين من بئر السبع وصحراء الأردن الجنوبية وأهم عشائرهم: عرب الحمدون، زبيد، العزيزيات، عرب وقاص، الزنغرية، عرب الشمالنة، الهيب، القديرية، المكية ، السيا ... . وبعض الغوارنة سكنوا صفد وحيفا وعكا وطبرية ومناطق في الجليل قبل النكبة . ونسبة الحولة إلى الغور مجازية جغرافية في حقيقة الأمر لأن الحولة مرتفعة عن الغور وهي أقرب لانحدار الجبل .
هاجر كثير منهم إلى لبنان وسوريا والأردن بعد النكبة ، وحملوا معهم أوجاع المهاجرين اللاجئين ، ولم ينج عرب الحولة من التهجير رغم ما زعمته بعض المصادر اليهودية من علاقة صداقة جمعت صداقة بين زعيم عرب الحولة كامل حسين يوسف والأمير فاعور فاعور أمير عرب الفضل مع اليهود ، فقد قتلت عصابة " البلماح" اليهودية أعداداً من الغوارنة على خلفية قتل رجل يهودي اتهموا قرية الخصاص به في ديسمبر 1947م وما تزال قضية كامل حسين محل حيرة من الغوارنة إلى اليوم وسبب ما نُسب إليه .
من لهجتهم التي تميزوا بها هذه الكلمات ، وغيرها كثير :

قوطر = ذهب
كونَه = مشكلة
فجَغه =  فشخه = فتح رأسه
مْبوقع = نصاب
كذيّة = مثل هذا
ادهك = ادعس
مُطقة = قُبلة
شنّ علييه = انظر إليّ
إلبد = اختفِ
براطم= شفايف
تكاونم =  تشاجروا

السبت، 16 يوليو 2016

ليلة الانقلاب في اسطنبول !

لم أكن أتوقع أن يكون يومي الأول في زيارتي لاسطنبول مليئاً بكل هذه الأحداث التي سيذكرها التاريخ جيداً ...
كانت إجراءات دخولي المطار سهلة جداً في صباح يوم الانقلاب لكن الصالات كانت مكتظة برجال الأمن بستراتهم الحمراء بأعداد كبيرة جيداً، أما أصدقائي الآخرين فقد دخلوا بعدي ولكنهم ظلوا ساعات طويلة في طابور الجوازات المكتظّ بسبب قلة العاملين في نافذة الجوازات ...
قضينا نهاري في عمل متواصل حتى بعيد العِشاء، ثم قررنا التجول قليلاً حول محيط إقامتنا ، وهناك بدأت الاتصالات تتوالى ... انقلاب !
كانت المشاعر مختلطة حزن ممزوج بغضب وذهول وتخوفات ... ما تزال حركة الناس عادية، لكن حافلات المترو توقفت قبل أوانها ، وهناك همهمات كثيرة من حولنا ، إشاعات الواتساب تزيد الوضع سخونة ... قررنا العودة بسرعة مشياً على الأقدام مدة طويلة سمعنا خلالها أصوات إطلاق نار كثيف أجبرت الناس على الانبطاح لكننا لم ننبطح، لأن الرصاص بعيد عن موقعنا !
 كانت سيارات الشرطة تغلق مداخل الشوارع ، ومراكز الشرطة تحصّن أبوابها وتستنفر رجالَها بأسلحتهم الأوتوماتيكية بداخلها ، كانوا يخشون من هجوم عليها ...
بدا كل شيء مظلماً !
سيطروا على المطار، قصفوا مقر المخابرات ، رئيس الأركان رهينة، بل قتلوه ، أردوغان اختفى ، أصوات الطائرات تتعالى ، الدبابات تغلق الجسور الاستراتيجية ، توقفت الحركة !
كانت بارقة الأمل الأولى في الخروج السريع لأردوغان في ثوان معدودات يدعو الجماهير للنزول للشوارع والتوجه نحو هدف محدد: المطار !
كانت هناك تصريحات رئيس الوزراء لقناة محلية تابعة للحزب الحاكم ! بينما كان الانقلاب يتلو بيانه السيادي الأول !
في مقر إقامتنا لم تكن هناك سوى العربية وسكاي نيوز وبي بي سي عربية والقناة الرسوية العربية ... كلها كانت تتحدث بثقة عن سقوط أردوغان !
كان رأيي مختلفاً ،  اتصلت بصديقي العزيز في اسطنبول أطمئن عليه ، كان حزينا وغاضباً ومتشائماً ، لكنني قلت له الكلمات التي كتبتُها في منشوري على الفيسبوك في ساعات الانقلاب الأولى: الانقلاب الناجح لا يتم إلا بالسيطرة على الشرعية : الرئيس ورئيس الوزراء والوزراء ، وجميعهم يتحدثون الآن ، وأما ظهورهم الإعلامي الباهت عبر السكايب أو الفيسبوك فهو بسبب إجراءات أمنية بحتة بعد سيطرة الانقلاب على المؤسسة الإعلامية الرسمية ، وما نشهده هو استعراض للقوة ... الانقلاب سيفشل حتماً ...
انبسطت أساريره ودعا الله أن يجعل كلماتي حقاً ، ثم بدأ يسمع كلمة أردوغان الجديدة ، ثم حدثني عن نزول الناس مكبرين للشوارع ... وكنت أرى الجموع تحتشد ، بينما الطائرات تحلق وتفرّغ الهواء بقوة لتخيف الجماهير ، ثم نسمع أصوات إطلاق صورايخ جو جو ...

كان المشهد يكتمل ... فشل الانقلاب ، وما نراه الآن هو متابعة الجيوب !

الخميس، 14 يوليو 2016

هل تتكلم في كل ما تعلم !

يحتج بعضهم بحديث كتمان العلم ( مَنْ سُئِلَ عن عِلمٍ فَكَتَمَهُ أُلْجِمَ بِلِجَامٍ من نَارٍ يوم القيامة ) للإخبار بكل ما يعلم دون نظر في المصلحة المعتبرة من البيان والتعريف، وإذا أعدْنا مراجعة النصوص فسندرك الكارثة التي نحذر منها دائماً في التركيز على نص واحد أو جهة واحدة في النصوص الشرعية دون حشد النصوص في الموضوع الواحد وملاحظة سياقها لاستنتاج الحكم العام وتفريعاته التفصيلية .
الاستدراك الأول: لابد أن تكون عالماً حقّاً بالمسألة، ولذا يقول عثمان بن سعيد الدارمي لأحد تلاميذه ينهاه عن الجواب عن كل سؤال يُطرَح عليه ولو ألحّ عليه الناس: " مَنْ سُئِلَ عَنْ عِلْمٍ يَعْلَمُهُ، وَأَنْتَ لا تَعْلَمُهُ ! ".
الاستدراك الثاني: ملاحظة الأثر الاجتماعي لهذا النص على سلوك عموم المجتمع بناءً على فهم غير مراد في النص، ففي الصحيحين عن معاذ بن جبل رضي الله عنه ، قوله : يا رسول الله ، أفلا أبشِّر الناس ؟ قال : " لا تبشّرهم فيتكلوا" .
الاستدراك الثالث: أن يكون العلم لأقوام يفقهونه ويدركون معانيه، ففي صحيح البخاري عن علي رضي الله عنه قال: " حدثوا الناس بما يعرفون ، أتريدون أن يكذب الله ورسوله ؟  "، ؛ وعن الأعمش قال:" آفة العلم النسيان ، وإضاعته أن تحدث به غير أهله" .

الاستدراك الرابع: أن يكون العلم في وقته ، حتى لا يكون الظرف العام متحكِّماً في طريقة فهم المتلقّين أو في مستوى التلقّي ، ومنه قول ابن مسعود رضي الله عنه: إِنَّ لِلقلوبِ نشاطاً وإِقْبالاً، وإِنَّ لها تَوْلِيَةً وإِدباراً ، فَحَدِّثُوا النَّاسَ ما أَقْبلُوا عليكم. 

الأربعاء، 13 يوليو 2016

هل أطلِق عقال الشعر !


لا أدري ما الذي جعل خيال الشعر يداعبني ويتحبَّبُ إليّ ، وأنا الذي جاهرتُ بعصيانه، وكسرتُ أعواده، ولم أترك فيه إلا وتراً يابساً يذكّرني به، فلا أقربه إلا مستعرِضاً به، حتى لا أُتّهم بالجهل بموضعه ...
وما تركتُه إلا لأنه يجعلني عصبيّ المزاج ، سريع الغضب، نَفوراً ، غليظ المزاج، وربما جعلني لئيماً في لحظات الميلاد العسيرة، بل إنه جعلني يوماً أرفع صوتي على مقام أحبّ الناس إلى قلبي لمّا دقّت باب خلوتي وأنا أعالج شيطان الشعر وأسترضيه ، فتبّاً لهذا الشعر الذي يجعلني عاقّاً كريهاً هكذا !
لذلك لا أكتب في العام إلا قصيدة واحدة لا أزيد عليها، وأجعلها عقلية تحليلية فلسفية لئلا تجرّني إلى أعماق النفس فأضلّ، وأحبِّر مختار الألفاظ والتراكيب فيها ، ثم أقرؤها لنفسي، ولا أشعر بالرغبة في نشرها وإذاعتها، فهي لا تصلح للمنابر، ولا يصفق لها أحد، فهي لا تهيج عاطفة العامّة ولا تداعب خيال الجمهور، إذ هي تسبح في الغنائية الذاتية ... وربما نشرتُ بعضها لغرض المناسبة فحسب، وهي تجتمع عندي في ديوان كبير !

هناك الآن ما يُلحّ عليّ لأعيد إطلاق الشاعر في نفسي، والعجيبُ أنّه يعِدُني أن يكون مهذّباً وألا أخشى من شيطان الشعر فقد قبِل الترويض واستجاب لمنطق العقوبة بالحرمان !

الثلاثاء، 12 يوليو 2016

ماذا يجري في دولة جنوب السودان !




كنتُ من الذين كتبوا في عدم المغالاة في رفض انفصال جنوب السودان عن السودان الأم ليس حبّاً في الانفصال فذاك أمر كريه لا يحبه أحد بل لظروف موضوعية تسندها معطيات التاريخ والسياسة والمجتمع والاقتصاد ... وكنتُ أقول إن سبيل الوحدة يبدأ بالانفصال إذ لا يمكننا إقناع الجنوبيين بالوحدة وهم يحلمون بالانفصال منذ استقلال السودان كما أن السودانيين يقاتلون منذ ستين عاماً من أجل وحدة وطنية لم تتحقق على حدود وطن صنعها المحتل الإنجليزي !
في الوقت نفسه كنتُ أحذِّر الجنوبيين من الانفصال فليس هناك تجربة سابقة في الحكم الرشيد في الجنوب المبني على صراع قبلي حادّ لا ينقطع ، وغياب تام لمنظومة التنمية والتعليم ، وغياب تام لمفاهيم الولاء للوطن أو الشعور به في إطار مخنوق جغرافياً وسط دول مضطربة سياسياً وأمنياً .
يتجدد الفشل كل موسم ، وتتبدد آمال الجنوبيين في دولة مستقرة آمنة ، ويشعر الأمريكان خاصة بعجز فاجع عن ملاحقة الأحداث التي لا تنطفئ نيرانها ، لقد جرّبوا الترغيب والترهيب بكل أشكاله، لكن الأمريكان الذين ورّطوا أنفسهم لا يستطيعون فعل شيء ، بل إن سيارات سفارتهم المحصنة تتعرض لإطلاق نار كثيف من مجموعات حكومية مسلحة بين الفينة والأخرى، وكل ما يفعله هؤلاء الدبلوماسيون هو الاتصالات الهاتفية مع عدد محدود من مسؤولي الجنوب النافذين الذين يعرفون كيف يتكلمون الإنجليزية في أبسط صورها البدائية ، ثم لا تعرف هل فهموا من بعضهم أم لا !
بدأت الأحداث الأخيرة على خلفيات قبلية بين قبيلة الدينكا ( منها الرئيس سلفاكير) وقبيلة نائبه (رياك مشار) النوير ، وعلى خلفية ثأر بين الأجهزة التي تقاتلت بعنف دموي كبير قبل أشهر ... كانت الضحية الأول ضابطان كبيران في استخبارات رياك مشار، جرى تشييع جثمانيهما بغضب كبير.
تطورت الأحداث بسرعة إلى أحداث نهب عسكري بين القطاعات العسكرية بين الطرفين، هذا يستولي على سيارات الآخر ويستوقفه ويعتقل من شاء ويقتل من شاء ... .
تحركت الدبابات صوب معسكرات المجموعات المعارضة التي لم تندمج بعد في القوات المسلحة وفق ما يتضمنه اتفاق السلام الأخير ، والتهب الوضع !
لم يعودون يميزون بين المعارض والموالي والمحايد فقد أطلقوا النار على الجميع: الأمم المتحدة – السفارات – المنظمات الدولية – مراكز الشرطة - المدنيين – الأجانب – التجار – المنازل – المستشفيات – الكنائس – النوادي – المدارس – نقاط التفتيش – ثكنات الجيش ...
السفارات تُجلي رعاياها، وتقلّص أعداد دبلوماسييها، والمنظمات تغلق أبوابها، الهروب شعار المرحلة !
انتشرت الجثث بالمئات في الشوارع ، وتوقفت المشرحة عن استقبال الجثث... لا كلمة إلا للرصاص والصواريخ والطائرات ، وأصبح ضابط الحاجز هو الآمر الناهي !
الآلاف يفرّون إلى معسكرات الأمم المتحدة في جوبا ولاسيما من قبائل النوير والفراتيت والشلك والزاندي ... والأمم المتحدة تحاول تأمين مواقعها لكن جنودها يُقتَلون أيضاً، آخرهم جنود صينيون !
القبائل الجنوبية الأخرى كانت تتمرد في أطراف الدولة، وتشتعل حروب القبائل في كل مكان انتقاماً من القتل القديم، وبحثاً عن نفوذ جديد في الفراغ الكبير !
اندلعت الاشتباكات في القصر الرئاسي ثم في محيط الوزارات وحول السفارات ، ووصلت النار إلى بيوت المعارضين ، دخلت مجموعات مسلحة من الدينكا على خط التصفيات السياسية الداخلية فهاجموا منزل الزعيم الجنوبي الراحل جونق قرنق حيث تقيم زوجته ربيكا وابنه دي مبيور ... فهم معارضون شرسون لزعيم الدينكا خليفة قرنق ويطمعون في منصبه !
تتصاعد الإشاعات كثيراً لتزيد الوضع سوءاً ، فالكل يتحدث عن مقتل هذا الزعيم وذاك، والكل يريد أن ينتقم لهذا القتيل وذاك ... لا أحد يعلم شيئاً !
أقوى الاشتباكات جرت أثناء لقاء الزعيمين: سلفاكير ومشار ، بين الحراس الأمنيين لكلا الشخصين، كان القتل فظيعاً خارج القصر وهم يدعوان إلى الهدوء عبر وسائل الإعلام ، لكن أحداً لا يصدق الآخر، بعضهم يقول إن تعليمات كل زعيم كانت تؤكد على الحسم العسكري حتى إن صدرت النداءات بالتوقف ... ولم نجد تأكيداً لذلك !
الزعيمان أعلنا أنهما لا يعرفان سبب الأحداث ! من يعرف إذاً ! والطريف أن الرئيس شكّل لجنة تتقصى الحقائق، وتقدم تقريرها بعد عشرة أيام !
الرئيس سلفاكير يعاني من تدخّلات مجلس سلاطين الدينكا في الدولة، إنهم الحاكم الحقيقي ويوجّهون أوامرهم لأفراد قبيلتهم في الجيش مباشرة ، وعيْنُهم على إبادة قبيلة النوير المنافسة.
رياك مشار نائب الرئيس وزعيم النوير القبيلة المنافسة يعتقد أتباعه أنه المقصود من النبوءة القديمة أن رجلاً من قبيلة النوير سيحكم بلاد الأماتونغ التي تضم جنوب السودان ومناطق منابع النيل ، تقول النبوءة إن هذا الرجل له فلْجة (فتحة) بين أسنانه الأمامية العلوية ! وقد انعكست هذه النبوءة على شخصية مشار ولاسيما بعد تسلّمه عصا جدّه التي استولى عليها البريطانيون أيام احتلالهم للسودان .
السفيرة الأمريكية تتحدث بوضوح أن الوضع خرج عن السيطرة، وأن السلطة فقدت التحكم والقدرة على القيادة، تقول أيضاً: "رأينا الرئيس كير ورياك مشار يدليان بتصريحات تدعو إلى الهدوء ثم رأينا بعد ذلك قوات تنطلق وتهاجم المدنيين وتهاجم مواقع الأمم المتحدة" !
السياسيون الهاربون يتحدثون أن الوضع السياسي لا يحتمل فحتى الآن لم يهتم أحد بإنجاز ما تم الاتفاق عليه ، فليس هناك برلمان انتقالي يجيز القوانين التي تم الاتفاق عليها ، الانفلات أفلت عقال الشر، فلا مكان لعاقل ... قوتك بسلاحك فحسب !
الملفت في الجانب السياسي هنا أن الفريقين تواصلا مع القيادة السودانية وطلبا التدخّل ، فكل شيء ينهار ، ولم يستطع الأمريكان ولا الإسرائيليون ولا الأوروبيون ولا الاتحاد الإفريقي أن يفعل شيئاً ... فهل سيعود الجنوب إلى حضن السودان الكبير ! وهل سيبتدئ السعي نحو سبيل الوحدة !


http://qudspress.com/index.php?page=show&id=21097

صوت صفير البلبل

أول مرة سمعت قصيدة " صوت صفير البلبل " كانت من شريط مشهور في الثمانينات بصوت الشيخ أحمد القطان ، وقد حظيت القصيدة بانتشار كبير بسبب شهرة الشيخ آنذاك ، وصارت الناس تحفظها لطرافتها .
يومها لم أستطع هضمها لكثرة أخطائها النحوية والصرفية واللغوية لاسيما أنني كنت آنذاك ابن مدرسة لغوية " شنقيطية " متشددة تهتم بمتن اللغة وشرح المفردة بعناية وتمثيل .
وأكثر ما ساءني حينها أنها منسوبة للأصمعي الذي لم تحفظ عنه قصيدة قط ، وإنما أبيات مفردة ، فقد كان راوية لا يتقن نظم الشعر بالمرّة رغم سعة حفظه .
لم أجد في القصيدة شيئاً سوى طرافة القصة وطرب الإيقاع أما غير ذلك فهي هذر فارغ ، وذوق فاسد ، فلا لغة فيها ولا جمال ولا تركيب صحيح ولا مفردة غريبة صحيحة .
لم أجدها في أي مصدر قديم ، وأول انتشار لها معروف كان في كتاب القاص الإتليدي المتوفَّى قبل نحو 300 عام في كتابه إعلام الناس بما وقع للبرامكة مع بني العباس ، والأصمعي مات قبل نحو 1200 عام تقريبا ؛ أي أن القصيدة مصنوعة لأغراض الطرافة وإضحاك الناس فحسب ، ولا ينبغي التماهر بحفظها أمامنا ، وإذا كان لابد من تمرين أوتار المخ على الحفظ فلنحفظ غيرها. 

الاثنين، 11 يوليو 2016

تأويل قول الشافعي : ( الوقار في النزهة سخف)

اختلفتُ مع أحدهم في تأويل كلام الشافعي رحمه الله ( الوقارُ في النُّزهة سُخْف) فقال تبعاً لقول شيخه: " أنّكَ إذا ذهبتَ في نزهة مع أسرتك أو أصحابك، فمن السخف وخفة العقل أن تكون متوقِّراً معهم، بل لا بد أن تنبسط لهم".
قلتُ: ذاك معنى مقبول منقول، ولكنه ليس الأصل في استخدام كلمة (النزهة) فأصل ذلك هو البعدُ عن الناس وموارد الماء التي هي مظنة اجتماع الناس في البوادي حتى لا يكون هناك أحد غالباً، ومقصود الشافعي منها – باعتبار عصره وفصاحته - هو الذهاب للخلاء في شقِّ البادية لقضاء الحاجة حيث لا يراه أحدٌ ، ومنه الحديث : ( كان لا يستنزه من البول) ومن قولهم: (فلانٌ يتنزّه عن الأقذار) ، ولأن البساتين تكون بعيدة عن المدن فسموا البعدَ للوصول إليها نزهة ثم غلبت في كلام الناس في القرن الثالث الهجري وما بعده.

ومما يدعم مذهبي هذا أن الوقار كالحلم والرزانة والمهابة والاحتشام ويمكن للمرء أن يكون على ذلك في رحلته في البساتين وأن يضاحك الناس ويؤانسهم دون أن يخلّ ذلك بوقاره وهيبته ، أما تكلّف الوقار والاحتشام عند قضاء الحاجة فهذا سيجعله لا يتجرّد عن ملبسه خوفاً من رؤيته على غير الهيئة التي يحبّ أن يراه الناس عليها ، وهذا سخف وقلة عقل في مثل هذا الموضع.