الخميس، 30 يونيو 2016

كلما قلّت حاجاتك زادت ثرواتك فتخلّ عن الرخيص من الحاجات وابحث عن النفيس منها لتعظم قيمة ما لديك ، واستثمر الثروة المتاحة في وقتك الباقي . 

الأربعاء، 29 يونيو 2016

إيقاع رمضان : إنه يوم قتال فأفطروا !

تجد لرمضان شعبية عارمة لدى العامة والخاصة على السواء ، ولديه ثقافة شعبية وطقوس وأجواء يختص بها دون غيره من الشهور مما يعني أنه من العبادات المتمكِّنة في المجتمعات، ومع ذلك فإنك تجد حرباً منظمة عليه من مجموعات تعادي التديّن عموماً ، ومن ذرائعهم القوية في ذلك ما يصفون به هذا الشهر بأنه شهر الخمول وقلة الإنتاج وكثرة الاستهلاك
الصوم مشقة بلا شك ، وهي مشقة محكومة بسياسة عدم الضرر ، فإن أدى الصيام إلى ضرر جزئي أو كلي على المرء أو من يليه فينبغي التوقف عنه ، ولذلك تجد الأعذار المبيحة للفطر واسعة : فالمسافر يفطر ، والحامل والمرضع والمريض ، والمرأة التي تفقد من دمها ... بل إن النص الشرعي كان واضحاً أن الصيام في السفر ليس من البر ...
وقد تحددت الفتوى أيضاً في الأعمال الشاقة بأنها مبيحة للفطر ، وحتى في الجهاد فإن المجاهدين يفطرون وقد ثبت أن كثيراً من الصحابة أفطروا في غزوة بدر التي كانت في رمضان ، وقد ورد الأمر النبوي للصحابة في فتح مكة الذي كان في رمضان "إنه يوم قتال فأفطروا" ؛ وكذا رأى بعض الفقهاء في النشاطات الرياضية في رمضان إذا كانت وظيفةً يقوم بها الشخص لأغراض مباحة ...
ما نريد قوله إن رمضان هو شهر استثنائي فيه جماليات استثنائية تتأسس على ترغيب الناس في أمر فيه مشقة وليس فيه ضرر ، وأقصى ما في الأمر أن الصائم يعيد ضبط حركته لتكون بإيقاع أقل ولاسيما في غير الضروريات والحاجيات للحفاظ على قوته وتماسك قدرته على تلك الرياضة العباديّة الشاقة ، ولا يعني الصيام أبداً أن يتوقف عطاء الصائم أو يضعف ؛ ومَن جعل الصيام كذلك فهو متكلِّف .

الاثنين، 27 يونيو 2016

زيارة نسائية !

جاءته أم المؤمنين صفية بنت حُيَيّ في محل اعتكافه في مسجده في العشر الأواخر من رمضان، كان الزمانُ ليلاً، وهو زمان عبادة عظيم يحب رسول الله أن يتلبّس به، ويتفرّغ له حين تسكن الأبدان إلى بيوتها ...
جلستْ إليه في أمر لا نعلمه، تحدّثت عنده ساعةً، ثم قامت لتعود إلى منزلها البعيد...
كان رسولُ الله مشغولاً بأمر فقال لها : لا تعجلي حتى أنصرف معك !
فما كان رسولُ الله ليتركها رغم كل هذا الفيض الإيماني الذي يعيشه مع ربه في معتكَفه ... خرج من مسجده يؤانسها حتى أوصلها إلى بيتها، ودّعها، ثم عاد !
كأني برسول الله بخروجه هذا كان في سفر، أراد به برّ أهله بإشارة ظاهرة، وتعظيم حرمة زوجه بسلوك قائم ، فالمعتكِف لا يشيّع زائراً خارج مسجده إلا لواردٍ عظيمٍ عليه.

(حديث زيارة صفية في صحيح البخاري )

الأحوذيّ !


إذا أردتَ أن تعرف معنى إدارة الأزمات السياسية والواقعية السياسية في التجربة السياسية الإسلامية فانظر في كلام أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها في حديثها عن الخليفة الراشد عمر بن الخطاب: ( وَمَنْ رَأَى ابْنَ الْخَطَّابِ عَرَفَ أَنَّهُ خُلِقَ غَنَاءً لِلإِسْلاَمِ كَانَ وَاللَّهِ أَحْوَذِيًّا نَسِيجَ وَحْدِهِ قَدْ أَعَدَّ لِلأُمُورِ أَقْرَانَهَا) .
ومن رآه أي عايشه عرن قربٍ أو درس تجربته بعمق، سيعرف في المحصِّلة أنه غَناء للإسلام ، أي أن تجربته الثرية كانت مصدراً غنياً من مصادر الإسلام في تطبيقاتها وأحكامها .
فقد كان عمرُ أحوذياً أي كان جاداً مشمِّراً قاطعاً في قراراته، مسرعاً في اتخاذها ، لا ينتظرها أن تشتدّ عليه الظروف وتضيق حتى إنه يكاد يسير مسيرة عشرٍ ليال في ثلاث ليال.
وقد ورد اللفظ أيضاً بالزاي (أحوزياً) ومعناه قريب أي أنه كان جامعاً لأطراف القضية وما شذ منها، مستوعباً لفرصها وتحدياتها وإشكالاتها ومكاسبها، عالماً بتفاصيلها  ...
ومعنى قولها ( نسيج وَحدِه) أنه منقطع القرين، قد بلغ درجة تقرب من الكمال في قراراته التي يرضاها الناس لكثرة الصواب فيها ، وقد جاء هذا التعبير على المجاز وذلك لأن الثوب النفيس الغالي كانوا يخصّون به سيد القوم فلا يُنسَج على منواله غيرُه .
وقولها إنه أعدّ للأمور أقرانها أي وفّر البدائل الممكنة في حال لم ينجح الخيار الأول في سياسة القضية المستهدفة، يتوقع المخاطر ويرسم سيناريوهات التعامل معها، ويستشرف المستقبل ويرسم طرق الوصول إليه بأمان وبأقل خسائر ممكنة . 

الأربعاء، 22 يونيو 2016

الشحّاذون والمتسولون في المساجد !

في رمضان يكثر الشحّاذون والسُّؤّال (جمع سائل) في صحون المساجد وعلى أبوابها  فأتذكر شيخ المؤرخين والمفسرين أبا جعفر محمد بن جرير الطبري عندما طلب من الخليفة المكتفي لمّا أصرّ عليه أن يطلب مكافأة على إنجاز كتاب في ما اتُّفق العلماء على صحته فطلب من الخليفة أن يأمر شرطته أن يمنعوا السُّؤّال من دخول مقصورة الصلاة حتى تنقضي الجمعة ، ويبدو أن بعض هؤلاء السائلين (الشحاذين) كانوا ينادون بحاجاتهم والإمام يخطب ولم يستطع المصلون منعهم فاحتاج إلى تدخّل الدولة .
والسؤال في المسجد مكروه كراهة تنزيه عند جمهور الفقهاء من الشافعية والمالكية والحنابلة ، وتشدّد الأحناف في المسألة فقالوا بحرمة التسول، وكرهوا أن يعطي أحدٌ للسائل شيئاً في المسجد ، فيما أجاز بقية العلماء ذلك محتجين بحديث أبي داود: «هل منكم أحدٌ أطعمَ اليوم مسكيناً؟ فقال أبو بكر: دخلتُ المسجد، فإذا أنا بسائلٍ يسأل، فوجدت كِسرةَ خبز في يد عبد الرحمن، فأخذتها فدفعتها إليه»  ؛ ومَن سأل الناس في المساجد وهو غني غير محتاج فإن سؤاله حرام .
وسئل الإمام مالك عن السّؤّال ( الشحاذين) الذين يسألون فى المسجد ويلحّون فى المسألة ويقولون للناس: قد وقفنا منذ يومين ويذكرون حاجتهم ويبكون ، قال: أرى أن ينهوا عن ذلك ؛ بل إن تلميذه ابن عبد الحكم كان يقول: مَنْ سَأَلَ فَلَا يُعْطَى، وَأَمَرَ بِحِرْمَانِهِمْ وَرَدِّهِمْ خَائِبِينَ .
وأما إذا أصدر السائل تهويشاً وصخباً وإزعاجاً في المسجد يَمنعُ من الذكر والدعاء والقراءة فقد أفتى السادة الشافعية بحرمته أو كراهته.
أما التصدق على المحتاج في المسجد من غير مسألة منه فهو مباح بلا كراهة ، وكذا من طلب الإمام أو الخطيب من الناس أن يتصدقوا عليه .
ولكن بعض الفقهاء لمّا رأوا شيوع الفقر وغلبة الحرمان وقلة الصدقة وأداء الزكاة فقد أباح السؤال في المساجد للضرورة مخافة الضيعة ورأوا في مشاهد الصلوات مظنة الرحمات، ورقة القلوب الباعثة على الصدقات. 

الأحد، 19 يونيو 2016

حُزُقّة !

طفلٌ صغيرٌ قصير القامة ممتلئ البطن ما زال يحبو لكنه يستطيع الوقوف وتتحرك أقدامه بخطوات قلقة مائلة بمساعدة جدّه الحنون ...
لا يفعل ذلك خِلسة بعيداً عن الناس، بل يشاهده أبو هريرة وهو يفعل ذلك مع حفيده الحسن أو الحسين ...
ليس سلوكاً فعلياً فحسب بل سلوك قوليّ ، يستخدم كلمات مضحكة ومُطْربة ، ذات إيقاع طارقٍ على الأذن البسيطة...
الطفل الصغير الكَلْبُوظ ( ضد العَصْعوص) المترنِّح في مشيته يمسكه جدّه الجليل ، ويضع قدميه على قدميه ويرفعه للأعلى قليلاً قليلاً ، يصعد ببطء إلى الشجرة العالية ، حتى تستوي قدماه على صدره ، ثم يطلب إليه أن يفتح فمَه ليقبّله، فيقبّله جدّه ، ولا تسأل عن سعادة الطفل وبهجته بتلك اللحظات وهو يستمع لترقيصات رسول الله له :
حُزُقّة ، حُزقّةْ ... تَرَقَّ عَيْنَ بَقّةْ
تأمّلوا في أصوات هذه الكلمات ، ونَغِّموها فسترون كم ستكون إيقاعاتها مضحكة، وتأمّلوا في تلك التشبيهات التي فيها :
الحزقّة : بضم الحاء أو فتحها ، وضم الزاي وتشديد القاف ، هو ذاك الطفل السمين الذي يضيق عليه جلدُه فيستدير كالكرة ، تدور إليتاه إذا مشى (كما يقول أبو عبيد القاسم بن سلام) ... يحاول المشي بصعوبة وتتقاربُ خطاه ...
يشجّعه رسول الله ليصعد إلى الشجرة: ترقَّ !
عينا هذا الطفل تبدوان أكبر  كلما صعد خطوة لأعلى ، لكنهما تبقيان صغيرتين : يا عينَ البقّة !
يا عين البعوضة صغيرة العينين ... إنك أيها الصغير المشاغب على امتلائك لا تكاد تُرى ... ويضحكان ...
ما أجملكما !
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: سَمِعَتْ أُذُنَايَ هَاتَانِ، وَأَبْصَرَتْ عَيْنَايَ هَاتَانِ رَسُولَ اللَّهِ صَلَى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ آخِذٌ بَكَفَّيْهِ جَمِيعًا يَعْنِي حَسَنًا أَوْ حُسَيْنًا، وَقَدَمَاهُ عَلَى قَدَمِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ يَقُولُ: " حُزُقَّةٌ حُزُقَّةٌ، تَرَقَّ عَيْنَ بَقَّةٍ "، فَيَرْقَأُ الْغُلامُ حَتَّى يَضَعَ قَدَمَيْهِ عَلَى صَدْرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ قَالَ لَهُ: " افْتَحْ فَاكَ "، ثُمَّ قَبَّلَهُ، ثُمَّ قَالَ: " اللَّهُمَّ أَحِبَّهُ فَإِنِّي أُحِبُّهُ ".  رواه الطبراني في الكبير، والبخاري في الأدب المفرد وابن عساكر في التاريخ.


السبت، 18 يونيو 2016

النابلسي خطاط الحرم النبوي !
د. أسامة جمعة الأشقر
كانت حصّة الفقه من أحبّ الحصص إليّ في الثانوية العامة، لكون أستاذها رجلاً فريداً زاهياً بمعرفته، ولم يكن النجاح عنده سهلاً فله في كل درس معلومة واحدة ليست مدونة في الكتاب، لا يسجّلها إلا المتابِع الحريص يأتي منها الامتحان الفارق .
يفتتح حصته بتخطيط عنوان الدرس بأصبوع الطباشير ، ويلوّن الخط بزهوٍ واحترافٍ ، وبعدَ أن يتمّ الكتابةَ يتأمّلها ثم يمسحها بسرعة ولا يترك لها أثراً .
كانت لحظاتي السعيدة عندما ألتقيه في الحرم النبوي، وكان كثير التردد عليه، ولكنني قلّ أن وجدتُه في الصفوف الأولى أو في الروضة الشريفة، فكان ذلك يثير استغرابي كثيراً ، وأنا أعلم حبّه للتعبّد والصلاة في هذا الموضع المبارك .
في مرّة تجرأت على أستاذي أحمد ضياء الدين إبراهيم الخطّاط العالمي الشهير الذي لم أكن أعرف قدْره إلا بعد حينٍ - عن سر ابتعاده عن صدر المسجد !
قال بسرعته المعهودة: إنه صاحبكم عبد الله زهدي التميمي !
ولم أعرف هذا الشخص الذي يجبر أستاذي على ترك الصفوف الأولى، فسألته عن صاحبي المزعوم هذا فقال: اذهب وابحث عنه بين خطوط الجدران !
لم يثِرْني جوابُه السريع آنذاك، ولم أعرف ما يقصد إلا بعد عشر سنوات !
وجدتُ اسم عبد الله زهدي التميمي على الجدار الأمامي للحرم النبوي، وتأمّلتُ في حرفة الخط وتداويره وتسطيحاته ومَيْلاته وانحناءاته وصعوده وهبوطه ... مما جعلني أندهش لهذه العظمة في رسم هذا الحرف العربي العظيم.
واستبدّت بي الدهشة لأبحث عن هذا الرجل الذي ولد بفلسطين عام 1836م، وينحدر من سلالة تميم الداريّ الذين يتركّزون في الخليل وتوجد امتدادات لهم في القدس ونابلس ، ولكنهم ذكروا أن ولادته في نابلس ، قبل أن ينتقل إلى تركيا ويكتسب هناك مهاراته في الخط.
العجيب في الرجل أن السلطان عبد المجيد الأول اختاره وهو في نحو السابعة عشرة من عمره لكتابات الخطوط المهيبة في جدران المسجد النبوي الباقية إلى اليوم عندما أراد تعمير المسجد النبوي عند سقوط أحد قبابه، وقد أمضى زهدي نحو 13 سنة في كتابتها كما يقول أستاذي أحمد ضياء في هذه المهمة وإذا حسبنا أطوال ما كتبه بخط الثلث على جدران المسجد فسنجدها نحو 2000م  ؛ ثم ما لبثت خطوطه أن انتشرت في مكة حيث تجدها في ميزاب الكعبة المذهّب، وفي سبيل أم عباس في مصر بدعم من الخديوي إسماعيل .
ولقد حظيتُ بزيارة إلى موضع مدفَنه خلف قبة الإمام وكيع قرب قبر إمامنا محمد بن إدريس الشافعي في القرافة عند سفح المقطم قبل أعوام ؛ حيث مات هناك عام 1879م.
أنصح بمتابعة هذا الخطاط العظيم وحكاية سيرته، واكتشاف شخصيته وفنّه من الوثائق العثمانية الباقية ودار الوثائق المصرية فهذا تراث مقدسيّ عريق وَصَلَ القُدسَ بالحرمين في مكة والمدينة عبر يده الماهرة .


حريتي !

أردتُ دوماً أن أكون كاتباً حرّاً ، لم يكن معنى الحرية التي أفهمها أن أكون شاذ الرأي عالي الصوت صاخباً ، فهذه حرية الزعيق فحسب ، تؤلّب الناس وتشغل أحاديثهم فتدفعهم للبحث عن مواقف من شذوذ الكلام هذا بين مؤيد ومعارض ... تغيب القضية ويبقى الرأي فيما يقوله .
فهمتُ الحرية في الكتابة بمعنى التجديد ، وبث الروح فيما أكتب بأن أكتب بجَمالٍ ، وأشعرَ بعقل ، وأضع نفسي في مكان من أتحدث عنه أو ما أتحدث عنه لو كان جامداً أو ميتاً أو صامتاً ... وأن أكتب للناس لا للكتابة ... أي أن أكون في كتابتي مفيداً جميلاً بكل وجه ممكن ..
فهمت الحرية بألا أكون صوتاً لأحد ، وأن يجد الكثيرون ممن أكتب لهم أو عنهم أن صوتهم معي لأنني معهم ، أتكلم بلسانهم ، وأعبِّر عن مخاوفهم وآمالهم لا  كصحفي يرتزق من وراء الكتابة عن الناس ، أو أديب يسعى لتسجيل لحظة إبداع تعبيرية تخلَّدُ له ، بل كإنسان يستطيع أن يشخِّص حالة النفس من زواياها الصغيرة الخافية ويكبِّر صورتها لتكون مرئية مفهومة ... 



الخرفيش... ذاكرة للعودة !
د. أسامة الأشقر
ما هذه النبتة الشوكية التي تتجنبها تيوس الماعز هذه ! ولا يكاد يقدر عليها إلا الجمل ذو الشفة المحصّنة من الاختراق إن استطاع الصعود إليها !
ما هذه الزهرة التي ترمز لبدايات الحب ومأساة النهاية !
شوكة مدرعة الأوراق بأشواك صلبة ، تنغرس بعمق في أفواه بهائم الجبل السائمة ! لكن زعانفها الشوكية المحيطة بأوراقها الخضراء الفاتحة النجمية مجوّفة ، ولذلك يسهل علينا كسرها لنفتح قلب زهرتها الأرجوانية ونستخرج لبها الأبيض اللذيذ كأنه الأرضي شوكي !
إنها نبتة "الخُرْفيش" تلك النبتة الساحرة التي تجمع رقة الأزهار، وصلابة الشوك ، ولذاذة القلب، وبرودة الطعم ، وصبر الغربة في البرية الموحشة ... إنه نبات الغرباء التائهين وطعامهم ودواؤهم ! وكثيراً ما تجد لها ذكراً حزيناً لدى الزجّالين المطرودين من ديارهم الفلسطينية بعد النكبة الفلسطينية عام 1948م ، لذلك صار الخرفيش أحد مكونات ثقافة العودة وأحد رموزها المادية .
نبتة غريبة تبدو بأشواكها القاسية كمن يرفض الأصدقاء رغم أنها تعيش بين الشومر والميرمية والقريص والعليق والزعتر واللوف والعكّوب ... ولولا زهرتها الشعرية الرقيقة لظننا أنها مقاتلٌ جبليّ لا يصادق قريباً ولا بعيداً !
في نهاية الشتاء تبزغ زهرتها ، وتزرع البهجة في رجوم الجبال وحواف الوديان والهضاب والأراضي البور بلونها البارد ! وبعد نهاية الربيع تبتدئ بالجفاف لتصبح حارسة الجبال من أقدام الغرباء ! ورغم هشاشة بُنْيتها وسهولة كسرها وهي جافّة فإنها لم تمتنع عن الحراسة بداعي الضعف !
وهي في ميعة خضرتها مع بداية الربيع نكسر سيقانها السميكة التي لا تحسن الميل، قبل أن يشتد عودها ويستطيل متراً معترضاً في الهواء، نجرِّدُ الأشواك عنه ، فنأخذ سيقانها الخضراء ونقليها بالزيت والبصل ونضيف لها الملح والتوابل !
يأخذون أوراقه العريضة الخضراء الترابية الفاتحة ذات الحواف المسننة فيضربونها بخلاط المولينكس الفرنسي فيحوّلون خضرتها البريّة إلى مراهم تجميلية تضيء وجه السمراء  !

 وعندما تجف تتحول زهرتها إلى طربوش يحوي بذوراً سوداء بحجم حبة السمسم ، فيها مرارة، لكنك عندما تحمّصها تجد في طعمها لذاذة القهوة الجبلية الحبشية المطعّمة بالهيل، وإذا سحنتَها ثم نقعتَها بالماء فإن نقيعها نافعٌ جداً للكبد وطرد السموم !

وهذه البذور المكسوّة بريشات شعرية بيضاء رقيقة هي أفضل مطعومات طائر الحسّون الجميل ! وقد تعجّب الصيّادون قديماً من إدمانه على أكل بذورها حتى عرف الناس أنها ليست طعاماً فحسب، بل هي دواء يعالج أمراض الكبد لدى الحسّون، إذ  لحظوا أنّه كثيراً ما تَنتق الحساسين في الأسر بسبب حساسية كبدها ، وهذه البذور طاردة للسموم المحبوسة في هذه الكبد كانت تجدها في الطبيعة بفطرتها.
ولا يأتي الحسون لبذورها فحسب، بل إن بين أوراقها دودة مشهورة تنتظرها الطيور الصغيرة كافة، كان الأطفال ينتقون الدودة البيضاء من بين الأشواك ويُغرون بها طيور البرية الشرهة، فيستدرجونها إلى فخاخهم .
وتنتشر البذور في نواحي الأرض مع سيول الأمطار ومع براز الطيور ، فلذلك ترى هذه النبتة في كل مكان !
ومن أهازيجنا القديمة فيها وفي بيئتها :
تِطربني هالعصافيرْ
تغرِّدْ قبل الشمس تنيرْ
ع التوتة تهدِّي وتطيرْ
بُلبُلْ قُبَّر وحسونْ
***
والا مقيقات الشُّنّارْ
في نيسان وفي آذار
والمداحي بالقنطار
باضت هون وقاقت هُونْ
***
ميِّل بزِّر فولَ اخْضرْ
وشوف الحنُّون الأصفرْ
ولقِّطْ خُرفيش وزعترْ
لملِم واشوِيْ حَلَزونْ


تيار الفرات 

د. أسامة الأشقر


إذا نسبتَ الكرمَ إلى أحدٍ فإنك تجعل له من التشبيهات والصفات ما يمكّن هذه النسبة إلى صاحبك ، فتقول إنه كالبحر أو لا تنطفئ نارُه من كثرة الضيفان ... .
ومن التشبيهات البلاغية القديمة في ذلك قولهم في الجواد الكريم إنه : تيّار الفرات !
والتيار هو الموج الذي يحمل قوة الماء وخيره ويلقي به إلى الشواطئ ، فهو متدفق غزير مطلوب .
والفرات هو ذلك النهر الكبير في العراق حيث كانت تسكن قبائل بكر وتغلب وإياد ...
وممّن وُصِف بذلك من القدماء جد رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد المطلب، وقد ورد ذلك في رثاء ابنته عاتكة له بعد مماته:
أَلَا يَا عَيْنُ وَيْحَك أَسْعِفِينِي ... بِدَمْعِ مِنْ دُمُوعٍ هَاطِلَاتِ
وَبَكِّي خَيْرَ مَنْ رَكِبَ الْمَطَايَا ... أَبَاك الْخَيْرَ تَيّارَ الْفُرَاتِ
وعندي ريبٌ قديم في هذه الأبيات رغم ورودها في مصادر النسب القديمة، ولكنني لا أشدِّد الآن في إثباتها أو نفيها .
على أن "تيار الفرات" من الألقاب القديمة التي التصقت باثنين من الصحابة المعروفين بالجود والسخاء : القعقاع بن معبد بن زرارة الدارمي التميمي وعبيد الله بن العباس بت عبد المطلب، ابن عم رسول الله .
أما القعقاع فقد وفَد على رسول الله مع قومه في السنة التاسعة للهجرة وكان سيداً جواداً، وهو الذي جرى الخلافُ العلني بين أبي بكر وعمر رضي الله عنهما في شأن تأميره على قومه حيث إن أبا بكر كان يرشّحه لإمارة قومه بينما كان رأي عمر أن يجعل عليهم الأقرع بن حابس ، فارتفعت أصواتهما بحضرة رسول الله فنزلت الآيات( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ... لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي)، وسبب شهرته بتيار الفرات هو افتخار الفرزدق به في شعره الذي امتدح به قومه من بني تميم:
دعمنَ بحاجبٍ وبني عقالٍ ... وبالقعقاعِ تيّارِ الفراتِ
الرجل الثاني هو عبيد الله بن العباس ، وهو من صغار الصحابة، وكان من أسخى وأكرم أبناء العباس ويحكى من كرمه أنه كان ينحر جزوراً كل غداة حتى هاجروا إلى المدينة، فاستقلّ منه أبوه أنه ينحر جزوراً واحداً في اليوم وفي استطاعته أن يصنع أكثر من ذلك فقال له: يَا بُنَيَّ مَا لَكَ تُغَدِّي وَلا تُعَشِّي ! إِذَا غَدَّيْتَ فَعَشِّ ! فقال عُبَيْدُ اللَّهِ لغلامٍ لَهُ يُقَالُ لَهُ بَنْدٌ: يَا بَنْدُ انْحَرْ غُدْوَةً ! وَانْحَرْ عَشِيَّةً !.