السبت، 18 يونيو 2016




الخرفيش... ذاكرة للعودة !
د. أسامة الأشقر
ما هذه النبتة الشوكية التي تتجنبها تيوس الماعز هذه ! ولا يكاد يقدر عليها إلا الجمل ذو الشفة المحصّنة من الاختراق إن استطاع الصعود إليها !
ما هذه الزهرة التي ترمز لبدايات الحب ومأساة النهاية !
شوكة مدرعة الأوراق بأشواك صلبة ، تنغرس بعمق في أفواه بهائم الجبل السائمة ! لكن زعانفها الشوكية المحيطة بأوراقها الخضراء الفاتحة النجمية مجوّفة ، ولذلك يسهل علينا كسرها لنفتح قلب زهرتها الأرجوانية ونستخرج لبها الأبيض اللذيذ كأنه الأرضي شوكي !
إنها نبتة "الخُرْفيش" تلك النبتة الساحرة التي تجمع رقة الأزهار، وصلابة الشوك ، ولذاذة القلب، وبرودة الطعم ، وصبر الغربة في البرية الموحشة ... إنه نبات الغرباء التائهين وطعامهم ودواؤهم ! وكثيراً ما تجد لها ذكراً حزيناً لدى الزجّالين المطرودين من ديارهم الفلسطينية بعد النكبة الفلسطينية عام 1948م ، لذلك صار الخرفيش أحد مكونات ثقافة العودة وأحد رموزها المادية .
نبتة غريبة تبدو بأشواكها القاسية كمن يرفض الأصدقاء رغم أنها تعيش بين الشومر والميرمية والقريص والعليق والزعتر واللوف والعكّوب ... ولولا زهرتها الشعرية الرقيقة لظننا أنها مقاتلٌ جبليّ لا يصادق قريباً ولا بعيداً !
في نهاية الشتاء تبزغ زهرتها ، وتزرع البهجة في رجوم الجبال وحواف الوديان والهضاب والأراضي البور بلونها البارد ! وبعد نهاية الربيع تبتدئ بالجفاف لتصبح حارسة الجبال من أقدام الغرباء ! ورغم هشاشة بُنْيتها وسهولة كسرها وهي جافّة فإنها لم تمتنع عن الحراسة بداعي الضعف !
وهي في ميعة خضرتها مع بداية الربيع نكسر سيقانها السميكة التي لا تحسن الميل، قبل أن يشتد عودها ويستطيل متراً معترضاً في الهواء، نجرِّدُ الأشواك عنه ، فنأخذ سيقانها الخضراء ونقليها بالزيت والبصل ونضيف لها الملح والتوابل !
يأخذون أوراقه العريضة الخضراء الترابية الفاتحة ذات الحواف المسننة فيضربونها بخلاط المولينكس الفرنسي فيحوّلون خضرتها البريّة إلى مراهم تجميلية تضيء وجه السمراء  !

 وعندما تجف تتحول زهرتها إلى طربوش يحوي بذوراً سوداء بحجم حبة السمسم ، فيها مرارة، لكنك عندما تحمّصها تجد في طعمها لذاذة القهوة الجبلية الحبشية المطعّمة بالهيل، وإذا سحنتَها ثم نقعتَها بالماء فإن نقيعها نافعٌ جداً للكبد وطرد السموم !

وهذه البذور المكسوّة بريشات شعرية بيضاء رقيقة هي أفضل مطعومات طائر الحسّون الجميل ! وقد تعجّب الصيّادون قديماً من إدمانه على أكل بذورها حتى عرف الناس أنها ليست طعاماً فحسب، بل هي دواء يعالج أمراض الكبد لدى الحسّون، إذ  لحظوا أنّه كثيراً ما تَنتق الحساسين في الأسر بسبب حساسية كبدها ، وهذه البذور طاردة للسموم المحبوسة في هذه الكبد كانت تجدها في الطبيعة بفطرتها.
ولا يأتي الحسون لبذورها فحسب، بل إن بين أوراقها دودة مشهورة تنتظرها الطيور الصغيرة كافة، كان الأطفال ينتقون الدودة البيضاء من بين الأشواك ويُغرون بها طيور البرية الشرهة، فيستدرجونها إلى فخاخهم .
وتنتشر البذور في نواحي الأرض مع سيول الأمطار ومع براز الطيور ، فلذلك ترى هذه النبتة في كل مكان !
ومن أهازيجنا القديمة فيها وفي بيئتها :
تِطربني هالعصافيرْ
تغرِّدْ قبل الشمس تنيرْ
ع التوتة تهدِّي وتطيرْ
بُلبُلْ قُبَّر وحسونْ
***
والا مقيقات الشُّنّارْ
في نيسان وفي آذار
والمداحي بالقنطار
باضت هون وقاقت هُونْ
***
ميِّل بزِّر فولَ اخْضرْ
وشوف الحنُّون الأصفرْ
ولقِّطْ خُرفيش وزعترْ
لملِم واشوِيْ حَلَزونْ


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق