الجمعة، 14 أبريل 2017

غرائب الوفَيَات

أمتعُ القراءة ما كانت تمضيةً للوقت الطويل أثناء السفر بدل الاشتغال بالجوّال لعباً أو تصفحاً لوسائط التواصل كما يفعل أغلب من أراهم، هناك أحمل معي نوادر الكتب التي قرأتها قديماً، وأعيد قراءة تعليقاتي على هوامشها يومَ كنتُ حدثَ السنِّ سريع َ الفكرة، فأضحك من نفسي ولهفتها على تحرير كل كلمة، ومما وجدتُه مشاراً إليه تعليقةً تشير إلى صفحات مؤشَّرٍ عليها بعنوانةٍ: نكات في غرائب وفَيَات العلماء، هذا بعضها:
1-   سكت قلب بديع الزمان الهمداني صاحب المقامات الشهير من أثر سمّ قديم يسبب توقفاً مؤقتاً في القلب وإغماءة سريعة فأُخذ ودُفِن حيّاً على عجلٍ ، فانتبه في القبر مذعوراً ، وسمع بعضهم صوته في الليل، ونبشوا قبره في الصباح فوجدوه قد قبض على لحيته ومات رعباً وخوفاً من هول الصدمة وتلبّس الموت ... كان ذلك عام 398 هـ
2-   وكان أبو جعفر النحوي الشهير بابن النحاس - صاحب كتاب إعراب القرآن وشرح المعلقات، وهو شيخ الطحاوي والإمام النسائي صاحب السنن ، وتلميذ المبرد - يقطّع عروض أبيات من الشعر على ضفة النيل عند درج مقياس النيل (فعولن مفاعيلن وفاعلن ومستفعلن ... وما يشبهها) فظنه أحد العامّة يسْحر النيل حتى لا يزيد، فتغلو الأسعار، فركله برجله في الماء فغرق، ولم يستدل على جثته.

وكان شيخنا البروفيسور عبد الله الطيب رئيس مجمع اللغة العربية – رحمه الله – يقول في شأن وفاة ابن النحاس : ربما اختطفه تمساح نيلي عشاريّ وهو يتوضأ على أحد شواطئ النيل في مصر ! ولا أدري من أين أتى بكلامه هذا، مات ابن النحاس سنة 338 هـ

أيام غزيّة



( مشهد الاستسقاء في مدينة غزة في العصر العثماني )

كنت حينها شاباً في ربيع أيامي دون الألف عام و كان الربيع لا يزال غضّاً يحبو ولا يزال المطر ينهمر عندما تقوّس قوس قزح فصاح عجوز سبعيني : إن قوّست باكِرْ خود العصا وسافِرْ !!!

وكان كما قال الشيخ فقد كانت سنابل القمح قد تطاولت قليلا وبلغ طولها شبرين وكانت تحتاج إلى أيام ممطرة لتكون بقامة الرجل المعتدل القوام لكن هذه السنابل اليوم اصفرّت وغار بهاؤها وغدت أشبه بهشيم التبن لولا بقية اخضرار كانت تلمع في بعض سيقانها تستصرخ المطر أن ينزل .

بلغ الحر مداه في هذا الربيع واشتدت النفوس فإن هذا إن دام فإنه يعني نهاية الموسم وخراب الديار !!

يا الله ... أجر عبادك والطف بهم!! .

وفي الليل يشتد تصايح بنات آوى الجائعات فيقتربن من البيوت كثيراً بصياحهن المرعب فتهرع إليها كلاب الحارة وتشتبك معها في معارك دموية تنتهي عادة بانسحاب بنات آوى ، ويتجدد اللقاء الدموي كل يوم .

في ذلك الصباح الضاحي الحار تجمّع شيوخ الحارات وفلاحوا الحقول ونظّار المناطق ومخاتير الأحياء في ساحة مسجد السيد هاشم جد النبي صلى الله عليه وسلم بينما تقاطر عليهم شيوخ الطرق الصوفية مع مريديهم بأعلامهم وراياتهم الخضراء والسوداء والبرتقالية والحمراء وهم يترنّمون بأورادهم ويضربون بصاجاتهم ويقرعون طبولهم الضخمة كطبول الحرب ويتطوحون في حلقات يدور بعضهم في الحلقة على بعض وقد رفعوا عقائرهم بترديد لفظ الجلالة في طرب وخشوع وتهدّج :

الله الله الله

بينما رأينا شيوخهم ينبسون بكلمة خفيفة بصوت خفيض :

هُو هُو هُو

ويردد معهم بعض المريدين :
لا إله إلا هو ...

لثلاثة أيام متعاقبة تواصلت الحضرات وافترشت مطارح الذكر ونصبت خيام التوبة بينما اشتدت جراءة بنات آوى على البيوت في أطراف الحقول طمعا في دجاجة أو أرنب واشتدت معها شراسة كلاب الحقل وبدت غاضبة مستفزة على الدوام ، واشتدت صفرة أرض غزة وبدت حبات رمال غزة كأنها مفروزة عن بعضها لشدة الجفاف .
في اليوم الرابع احتشد الصبيان والجواري الصغيرات في صفوف غير منتظمة وبدؤوا بترتيل الأناشيد والأهازيج الشعبية :


سيّدْ   هاشمْ    نسترجيكْ  رشق المطر  يرقع  فيك
يا الله المطرْ يا الله السيلْ
 اسقي زرعك  هالعطشان
حط  القمح   في   الجرّة  واستنّى    رحمِةْ     ألله
حط  شْعيركْ  في  بيركْ  واستنّى:   الله    يجيركْ

ومع غناء الأطفال الخاشع جرت مسيرات الصوفية يتبعها أهالي عموم غزة صوب جبل المنطار حيث أُعدّ المكان للصلاة وما لبث قاضي غزة أن خلع جبته ولبسها بالمقلوب كما السُّنة وصلى بالناس صلاة الاستسقاء.
بعد الصلاة أتى الحمار الأبيض يجر وراءه محراثاً فحرث خطاً طويلاً ، ثم جاء مشايخ الطرق والمبروكون فاستلموا المحراث وحرثوا خطوطا أخرى ثم جلسوا جميعا متوزّعين على شقوق المحراث يبتهلون إلى الله ويدعونه ويستسقونه .
ثم توجهت مواكب الصوفية إلى ضريح (سيدنا المنطار) وأنشدوا :


يا  منطارْ   نسترجيكْ   رشق المطر يرقع فيك

ثم اتجه الموكب يتقدمهم شيخ حارة التفاح صوب سيل المنطار ثم حارة التفاح فطافوا على أولياء الحارة وهم يستغيثون بأولياء الحارة ويستنجدون بكراماتهم .

تبدد القلق المصبوب على قلوب الغزيين لمّا رأوا مخايل السحب تتكثف قرب بحر غزة فطار الناس إلى البحر يستنجزون رحمة الله إلا أن شيوخ" النحاحلة" و"البروس" وضعوا أرجلهم في غرز أرضهم على شاطئ البحر وقالوا : أملاكنا حسب الطابو حتى سابع موجة في البحر، ومَن يقترب نقطع رجله ورجل أبيه ، فدهش الناس واقترب منهم علية القوم ووجهاؤهم يسألونه العطف بالناس فأبوا واشتطوا في الإباء حتى كاد القتل ينشأ بينهم لولا أن السحابة السوداء تبددت جهة البحر وقدمت أخرى من جهة الجنوب وهطل غيثها على أنحاء غزة دون شاطئها .

فرح الغزّيون أيما فرحة بهطول الغيث فانكبوا يحتفلون بهذه المناسبة ونفرت النساء إلى بيوتهن لإعداد الكعك ومعقّدة الليمونية والخبز .
لكن الوقود قليل، والخشب اليابس استولت عليه رجالات المتصرفية فتعاهد أهل الدرج ومن جاورهم خاصة على ألا يخبزوا إلا في فرن واحد رغم أن كل بيت تجد فيه فرنا ؛ وراح شباب الدرج يجمعون القصل "التبن الخشن " ويمزجونه بروث البقر ويجففونه في الشمس على هيئة أقراص ثم يجعلونه بين أيدي النساء لاستخدامه وقودا؛ ويحلو الحديث بين نساء الدرج المجتمعات فيتبسّطن في الحديث عن فلانة وفلانة وفلان وعلان وهيّان وبيّان وصلعمة وقلعمة.


جثامين الأجانب الغرباء على قمة جبل عين كارم !


إلى الجنوب الغربي من مدينة القدس  وعلى بُعد نحو سبعة كيلومترات كنت ترى بلدة عين كارم وهي تتربع على التلة وتمتد إلى القرى من حولها وسط بساتين اللوزيات والزيتون وأحراش الصنوبر والسرو ، كانت متنزهاً قديماً لأهل القدس يلقون فيها أثقال أيامهم بين أحضان الطبيعة الخضراء، وكانوا يتفاخرون بأملاكهم فيها !
كان يختارها الغزاة والمحتلون ، والحكّام القادرون لارتفاعها وطيب هوائها ووقوعها على طريق يصل القدس بساحلها البحري البعيد ، فكانت مستقراً لقادرة الفرنجة الصليبيين ولاسيما من نخبة البولونيين الإيطاليين ، وما يزال للفرنسيسكان أديرة وملاجئ فيها !
لها تراث مسيحي قديم تحكيه كنائسهم ، يقولون إن مريم العذراء وابنها المسيح – عليه السلام – عاشا فيها دهراً ، وكانت مسكناً أيضاً لزكريا وابنه يحيى ، لذلك تجد الكنائس كثيرة فيها ، أشهرها كنيسة الزيارة .
هي اليوم تقع فيما يسميه الصهاينة ( القدس الغربية) ويجعلها العالم الظالم جزءاً من الكيان الإسرائيلي ، ولكثرة آثارها القديمة أرادوا تسجيلها كواحدة من مراكز التراث اليهودي لدى منظمة اليونسكو ، وسعيهم حثيث لذلك !
كانت قرية عربية تمتزج فيها الديانة الإسلامية بالديانة المسيحية في انسجام وقبول ، حتى غزتها اليهودية الصهيونية وقررت تهويدها الكامل ومسح هويتها، ولأنه لا يوجد لهم فيها شيء يعرضونه للسيّاح المتدينين الجاهلين بتراث المدينة القديم وآثارها إلا بما يعرضه المرشدون لهم ، فقد جعلوا أعلى قمة فيها مزاراً يهودياً عظيماً ، وجعلوا الولاية عليه لوزارة الدفاع، فأنشؤوا هناك مقبرة (عظماء الأمة اليهودية) !
بعد تأسيس الكيان بأقل من عام وتحديداً في عام 1949 نفذ الصهاينة المنتصرون على شتاتنا وصية مؤسس الصهيونية تيودور هرتزل فنقلوا رفاته الأجنبي الغريب عن هذا التراب إلى الجبل ، لقد كتب في وصيته أن ينقلوه إلى (أرض إسرائيل) عند تأسيس الدولة، وأوصى أن تدفن عائلته في مقبرته ! وتحول اسم الجبل من تلة عين كارم إلى جبل الصحافي السويدي هرتزل ! وأصبح قبلةً لمنافقي العالم ، ومَحجّاً للظالمين ، وصندوقاً للمتبرعين الذي يخطبون ود صهاينة العالم  !
نقلوا رفاته إلى هناك ، وبقي أن تنتقل عائلته إليه !
كان له ثلاثة أطفال صغار عندما مات عام 1904 عن عمر يقارب 44 عاماً ، ولكنهم كانوا أولاد سوء لم يحفظوا تراث والدهم المجنون
بولينا اليائسة التي ماتت بجرعة زائدة من مخذر المورفين عام 1930 وهي في سن الأربعين !
وترودي التي روّجوا أنها ماتت في معسكرات الاعتقال النازية !
وهانز الطفل الذي كبر ليتخلى عن يهوديته ويتحول للمسيحية ، ثم يموت منتحراً .
عندما كان إيهود أولمرت الصهيوني المتعصب الذي أدين بالفساد رئيساً للوزراء تبنّى مشروع نقل جثامين الأولاد لجوار أبيهم ، وتمكن فريق المؤرخين ورجال الدين المزوِّرين من ليّ الحقائق وتزويرها كالمعتاد ، فقد استطاعوا تخريج تحوّل هانز للمسيحية بأنه عاد لليهودية بدليل دفنه في مقبرة يهودية فرنسية ! وأما انتحاره فقد كان مرضاً نفسياً أصابه نتيجة فقره وعدم اعتناء يهود العالم بأبناء أستاذهم الأكبر ! وتمكّن من نقل رفات الثلاثة أخيراً في سبتمبر عام 2006 بمباركة كاملة من الصهاينة العالميين .
حول هرتزل يرقد زعماء الكيان الإسرائيلي وأكابر مجرميه ، تجد قبر إسحاق ليفي وارييل شارون ومناحيم بيغن وغولدا مائير وإسحاق رابين ، ويرقد إلى جوارهم بعض مَن خانوا أمتهم من ديانات مختلفة وخدموا هذا الكيان الصهيوني !
انضم شيمون بيريز البولندي الروسي (روسيا البيضاء) إلى هؤلاء القتلة المجرمين الكبار يوم 29 سبتمبر 2016، ودفن إلى جوارهم يشيعه ضيوف من نحو تسعين دولة بينهم رؤساء سابقون ودول عربية في الوقت الذي كانت انتفاضة القدس تجدد ذكراها الثانية .



الوطنية والقومية مع د أسامة الأشقر

منهجية إقصاء أبناء الصحوة الإسلامية مع د أسامة الأشقر

لا يمكن تهميش الإسلام مع د أسامة الأشقر

محاولة إدماج المدرسة الإخوانية مع السلفية مع د أسامة الأشقر

بعد تعدد أنواع الإسلام الآن أى الإسلام يبقى ؟ مع د أسامة الأشقر

الأمسية المقدسية : الأقصى في عيني رسول الله

البركة وبيت المقدس د.أسامة الأشقر تحقيقات جديدة في معنى البركة

د.أسامة الاشقر - اللغة و اللسان عند الترابي

عابرٌ قُدسيّ | الحلقة 4 - أمير المؤمنين في القدس

عابرٌ قُدسيّ | الحلقة 2 أم الدرداء والأقصى

الجمعة، 7 أبريل 2017

قيمة النشيد الوطني الفلسطيني وموسيقاه !

يشعر المرء بالفخر عندما يقف أمام علم بلاده ويستمع بحماسة لنشيدها الوطني وإيقاعاته المحفِّزة لكنني عندما أستمع للتعديل الموسيقي الذي أحدثه فريق أوسلو على إيقاع النشيد الوطني الفلسطيني فأنا لا أحتمل الرتابة القاتلة فيه وأشعر بوجعٍ يرميني ويدحرجني على حَصْحاص مدبّب كأنني قطة مقطوعة الأرجل تزحف على بطنها وبقايا أقدامها المتصلة بالبطن الزاحفة عندما أسمعها ...
ومع أن إيقاعات النشيد السابقة ليست محمّسة أو قوية أيضاً فإنها كانت أفضل بمراحل من هذا الإيقاع الأخير ، فقد كان النشيد القديم لـ"فدائي" الذي هو في الأصل نشيد حركة فتح الذي جرى تحويله لنشيد فلسطين ، وهو من كلمات شاعر ثوري فتحاوي معروف هو سعيد المزين وإن كنتُ أرى أنه شاعر تعبوي ولم يصل مرحلة الإبداع في شعره أو التميز فيه ، فلا أكاد أجد له أشعاراً رائقة خالدة ، وهذا النشيد بالذات من أضعف أغانيه، ولا أظنّه سيقبل أن تكون هذه الكلمات المصفوفة كحجارة الطريق المعاد استخدامها لرصف طريق تحت الصيانة... لا أظنه سيقبل بها كلمات نشيد ثورة أو دولة ! ؛ وقد لحّن هذا النشيد الموسيقار المصري علي إسماعيل، وقام بإعادة التوزيع الموسيقي الموسيقار اليوناني ميكيس تيوذوراكيس ، وكان ذلك التأليف للكلمات وتلحينها قد جرى عام 1965م إبّان انطلاقة حركة فتح ثم اعتمدته اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير نشيداً وطنياً عام 1972م بعد استكمال سيطرة حركة فتح على منظمة التحرير والقضاء على نفوذ أحمد الشقيري فيها بدعم من مصر؛ والعجيب أن هذه الكلمات العادية لهذا النشيد جاءت على أنقاض كلمات النشيد الفلسطيني الوطني الذائع الصيت "موطني" لشاعر فلسطين الكبير إبراهيم طوقان ، الذي عرفت قيمته دولة العراق بجعله نشيدها الوطني .

وقد كنتُ أراقب بخوفٍ التسريبات بخصوص اللجنة التي كلفتها منظمة التحرير الفلسطينية لإعادة توزيع موسيقى النشيد الوطني وأنظر بارتياب إلى أسباب ذلك بما يتسرب إلينا من معلومات حول لقائها مع الموسيقار الفلسطيني المبدع حسين نازك حتى كشفوا لنا عنه في 2005 فكان صادماً لنا، وقد أصررنا مع كثيرين من الكتاب والأدباء والفنانين الفلسطينيين في سوريا ولبنان حينها على رفض هذا التعديل الذي يجري من ورائنا وظللنا نستخدم التوزيع القديم اعتراضاً على التدخلات غير المفهومة من سلطة أوسلو والقيادة المتنفذة في منظمة التحرير التي تفوقت في برامج تصفية القضية الفلسطينية والتنسيق الأمني مع العدو الصهيوني، وكنا جازمين في الاعتقاد أن هذا القرار إنما جاءت استجابة لمطلب إسرائيلي يريد إنهاء روح الحماسة في كلمات النشيد الفلسطيني لاسيما أنه كان من شروط التفاوض عدم استخدام النشيد الفلسطيني نهائياً للجلوس في مفاوضات قبل أوسلو .

الثلاثاء، 4 أبريل 2017

كرامة المسؤول !

من القضايا الخطيرة التي تؤدي إلى قرارات خاطئة وربما تقود إلى كارثة أن تجعل من مسألةٍ شخصيةٍ قضيةً تتربّع الأولويات التنفيذية في الإجراءات أو القرارات ، وهذا ما يسمونه كرامة الزعيم أو المسؤول !
يبتدئ التنظير للفكرة بأنّ المسؤول ليس واجهة الجماعة أو المجتمع فحسب بل هو عنوانها وجوهرها وأن المسّ به هو مساس بالجماعة وبالمجتمع الذي يمثله، وهذا يترتّب عليه استنفار طاقة الجماعة والمجتمع للدفاع عنه ومحاربة من يمسّه، وتحمّل تكاليف الحملة.
إن المسؤول أو الزعيم ليس رمزاً يختصر القيم والمعاني والمبادئ كالأنبياء كما أنه لا يمثّل الوطن ولا الوطنية، وإنما هو شخص مكلف بالإدارة والقيادة، والاعتداء عليه يُتعامل معه بإجراءات محددة زمانياً ومكانياً وموضعياً وليس سياسات ثابتة أو طويلة الأمد، شرطَ أن يكون المعتدِي يمثِّل جهة معادية لا شخصاً منافساً أو حاملاً لأحقاد قديمة فهذه يُتعامل معها في مجال المراجعات أو المحاكمات الداخلية أو الأهلية بوصفها اعتداءً شخصياً لا سياسياً.
إن هذا ليس تفريطاً بالتزام الدفاع عن الكتلة المجتمعية وممثليها بل هو دعوة للتعقّل في مجاراة الاندفاعات العاطفية التي لا تعود بفائدة أو مصلحة على المجموع ، فكلّ شيء يقدر بقدره ويُعطَى وزنه الحقيقي؛ ولا يمكن لأحد أن ينتقص كرامة مسؤول إذا كان شعبه أو مجتمعه ذا كرامة محفوظة، ولو فعل أحدهم ذلك فإن هذه معركة خاسرة منه لا تساوي قيمة الرد عليها .

إن فهم هذا الأمر سيريحنا من دخول مواجهات كثيرة يفتعلها بعض الأتباع الحمقى والموتورين والمتعصِّبين ... ليجرّونا إلى معارك هامشية ثانوية ربما يخدم بعضها أجندات معادية مُغرضة سواء كانت داخلية أو خارجية.

الاثنين، 3 أبريل 2017

قَشَفُ الناس وذَمِيمهم !

لو علم أهل الاقتصاد والسياسة معنى التقشف لأدركوا أنه أقرب ما يكون إلى اقتصاد الحرب العمياء العاضّة بأنيابها في جانب إغفال بنود الصيانة والخدمة وضروب الرفاهية والتجميل، فيصبح المواطن عندهم في زمن التقشف مُتَقَشِّفاً : وهو المُتَبَلِّغُ بقُوتٍ يسيرٍ، وثوب مُرَقَّعٍ، لا يُبالي بما تَلَطَّخَ بِجَسَدِهِ وما نما عليه من أظفار طويلة وشَعر مائج ... فيشبه ما صار عليه المتقشّف أنه وصفٌ للزاهد عن متاع الدنيا لكنه زهدٌ لا عن إرادةٍ وتمكّنِ قرارٍ.
وأصله وهو ما لم أجده في المعاجم القديمة من القَشَف وهي تلك القشور المُخدّدة في القدمين واليدين من أثر البرد القارس الذي يُكَتْكِت فيه المرء لاسيما في شهري كيهك وطوبة، فيترك المرء التنظّف بالماء لاسيما في خيام الصحارى ومخيمات اللجوء حيث لم يكن عنده السخّان الكهربيّ أو مواقد النُّورة الضخمة أو صوبات الحطب، وأذكر أن الدم كان يسيل من بين شقوق القشف ، وكانت الوالدة تقول لنا إن لبس الجوارب وكثرة الاغتسال بالماء الحار مما يزيل القشف ، وكنّا نهرب من ذلك القيد في القدمين إذ لم أكن أحبّ تلك "الجزمة" وما زلت، كما أن الاغتسال بالماء الحار ثم الخروج إلى الشارع في البرد كان يفتح الصدر على المرض ؛ وهناك قشف قبيح مكروه ذكره أصحاب المعاجم القدماء وهو ما كان سببُه تركَ التنظّف وقذارة المرء عن إرادةٍ منه، وكأنّ الجلد يصبح كقشور ظهر الضبّ المنفرد.
وربما كان أصله من قولهم إنه امرؤ قَشِف: وهو الذي لَوَحَتْه الشمس من كثر السير تحتها بلا مظلة تمنع عنه لهيبها فيتغير لونه وتشتد سمرته.
 وكنتُ في شبابي أستعير من كلام بعض النساء كما ذكر التوحيدي في الهوامل والشوامل أن القَشَف من الشرف، وأن الترف من السرف ! ثم علِمتُ أن النساء أرَدْنَ من القشف يبس الحال وشظف العيش وخشونة الفقر .
وشبيهٌ بالقشَف ما يقالُ له الذَّمِيمُ: وهو تلك الخلايا الميتة الطافية على سطح الأنف أو الوجه كقَشَفِ القدمين ، وتكون عادةً بسببٍ مِن حَرٍّ أَو جَرَبٍ أو قذارةٍ، واحِدَتُه ذَمِيمَةٌ؛ أذهب الله عنكم قشف الحكومات وذميم وجوههم . 

أم المؤمنين عندما تغضب: أنَّى للمرأة الشؤم !

بينما كنتُ في جزيرة سواكن على ساحل البحر الأحمر، حدثني مؤرخو الجزيرة أن هذه الجزيرة البيضاوية القريبة من الشاطئ لم تكن متصلة بالقيف (البر الساحلي) حتى أمر أحد الوجهاء الأثرياء بردم المسافة المائية بالحجارة والرمال، لمّا رأى امرأة وحيدة عند الغروب تحاول الوصول للبر لكن أحداً لا يحملها في زورقه فعدّ ذلك شؤماً وفعل ما فعل، فعجبتُ لهذا التعبير بالشؤم ، وتذكرتُ الحديث المأثور عن ابن عمر قال: ذكروا الشؤم عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ( إن كان الشؤم في شيء ففي الدار والمرأة والفرس )، فهذا الحديث ينفي الشؤم، ولكنه يفترضه – إن كان – في ثلاثة أشياء لا رابط بينها، والعجيب أنها مواضع طلب وشرف ومكانةٍ .
وقد بدأ الفهم الخطأ لهذا الحديث قديماً مما استدعى تدخّلاً عنيفاً من جانب أم المؤمنين عائشة التي انتصرت بنات جنسها وللحقيقة التي تعرفها، وكاد أن يطيش عقلها وينقسم شطرين غضباً من هذا الفهم الأعوج، فتحكي مناسبة هذا القول وأن رسول الله كان يحكي عن معتقدات أهل الجاهلية، يروي ابن عساكر في تاريخ دمشق عَنْ أَبِي حَسَّانٍ: أَنَّ رَجُلَيْنِ مِنْ بَنِي عَامِرٍ أَنْبَآَ عَائِشَةَ، فَقَالا: إِنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ يُحَدِّثُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " الشُّؤْمُ فِي الدار، وَالْمَرْأَةِ، وَالْفَرَسِ "، قَالَ: فَطَارَتْ شُقَّةٌ مِنْهَا فِي السَّمَاءِ، وَشُقَّةٌ فِي الأَرْضِ، فَقَالَتْ: كَذَبَ، وَالَّذِي أَنْزَلَ الْفُرْقَانَ عَلَى أَبِي الْقَاسِمِ مَا قَالَهُ لَهُ، إِنَّمَا قال: " كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يَتَطَيَّرُونَ مِنْ ذَلِكَ ".
والطريف أن علماءنا مالوا كعادتهم إلى تفسير الأمر مع ملاحظتهم لغرابته وتصريف وجه الغرابة وتأويلها بما يعيد المعنى إلى ناحية مقبولة عقلياً، فقالوا إن شؤم الدار في ضيقها أو جيران السوء أو بعدها عن المسجد؛ وأن شؤم الفرس في جموحها ونفورها أو عدم الغزو عليها؛ وأن شؤم المرأة في غرورها أو سلاطة لسانها أو عدم قناعتها أو غلاء مهرها...؛ وبعضهم يذهب مذهباً أجمل وأكثر إبداعاً فيقول: إن الشؤم في هذه الثلاثة لكثرة الإنفاق عليها، وفائدة الحديث إعلامٌ أن هذه الثلاثة الأشياء يكثر الخَرْج عليها، وتذهب البركة من المال بسببها.
 وتصويب عائشة صوابٌ يتناسب مع مقدمة الحديث في البخاري: قال ( لا عدوى ولا طيرة؛ والشؤم في ثلاث: في المرأة والدار والدابة ) فرسولُ الله يبطل مذاهب العرب في التشاؤم والتطير والخوف من العواقب استناداً إلى مقدمات يفترض فيها المتشائم أنها قطعية الوقوع بسببها، فكأنه يقول هنا: إذا كان لك دار لا تحب سكناها فارحل إلى غيرها فحسب، وإذا أرهقتك صحبة امرأة لا تحبها ولا تحبك ففارِقها وطلِّقْها، أو إن كنتَ لا تثق بفرسك وقدرتها على النجاة به في المغازي وقضاء الحوائج فلتَدَعْها ولتَبِعْها ! وهذا عينُ ما ورد في إحدى روايات الحديث فيما رواه ابن عساكر عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ، قَالَ: ذَكَرْنَا الشُّؤْمَ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعْنِي، فَقَالَ: " إِنَّ شَيْئًا لا يَشْأَمُ شَيْئًا، فَإِنْ كَانَ الشُّؤْمُ فِي شَيْءٍ فَفِي الْمَرْأَةِ، وَالدَّارِ، وَالْفَرَسِ ".
وبالعودة إلى جزيرة سواكن فعندما سألتُ بعضهم عن معنى التشاؤم الذي وجده الرجل في حمل المرأة وحدها، قال بعضهم إن المرأة الوحيدة مصدر شؤم لأن ذلك يعني أنها فقدت أهلها، أو فرّت منهم فلا يمكن لأحد أن يترك امرأة من أهله وحدها حتى لو جنَت جناية عظيمة، ولا يتصورون أن امرأة يمكن أن تكون وحيدة في مجتمعاتهم التي تحافظ على المرأة إلا إن كانت كافرةً أو عاهرة  -كما يقولون- ؛ وإذا حدث أن تخلّى أحدهم عن عِرضه بلا صيانة وحماية فدلّ ذلك على شؤم أهلها وسوئهم، فعجبْتُ لهذا التأويل المجتمعيّ .


السبت، 1 أبريل 2017

الفلافل ... سِيَر ذاتية !



يغتاظ المرء من فعل الغزاة وطبائعهم اللئيمة في الاستئثار بكل ما هو لك، فلا يكتفون باستلاب وطنك، بل بنزع مظاهر انتمائك واتصالك بثقافة هذا الوطن وشعائره المجتمعية في التراث الملبوس والمطعوم فيجعلون طعامك الشعبيّ المفضّل طعامهم القوميّ !
إن الفلافل اليوم ليست طعاماً وطنياً فحسب بل إن رائحة الزيت الذي تقلى فيه رائحة وطنية ونكهة وطنية ذات مذاق عربي أوسطيّ عريق ! بل إن الالتزام بأكلها وصناعتها على أصولها في البيت مما يجعلنا بأمان من الاستلاب الثقافي ! وإن كنتُ أخشى عليها من تسلل المايونيز إليها بدل الطحينة أو الحمص المطحون !
المصريون جعلوها طعام الأقباط الصائمين عن اللحم ، وبالغوا فأرجعوها إلى عصر فرعوني واحتجّوا بأنها كلمة ثلاثية ( فا -لا -فل) أي ذات الفول الكثير ، ولكننا لم نجد نقوشاً تصويرية لهذا الـ (فا لا فل) ، كما أن الاسم الشائع قديماً للفلافل في مصر طعميّة، وليس فلافل ، مما يعني أن الكلمة وافدة طارئة، وأن التفسير متكلّف، بل إن كلمة الطعمية ذاتها محْدَثة طارئة ! ولِمَ لا يكون معنى الفلافل الفرعونية هذه الكثيرة الفول هي الفول نفسه بطبقه العامر المُكتنِز! لاسيما أن جنوب الوادي في القطر السوداني وهم ذوو علاقة قديمة بالتراث الكوشي والنوبي الفرعوني اليوم يصنع الفلافل أو الطعميّة من "الكَبْكَبيه" أي الحمص وليس الفول، بل إن الفول المصري نفسه لم يكن معروفاً في القرون الخالية لتراث المطعومات السودانية !
في الشام يقولون إن الفلافل هي الكُبّة الشامية الشهيرة، لكنها خالية من هبرة اللحم، وتكون طعام الفقراء العاجزين عن شراء حشوة اللحم فيها، ويُكتفَى بمزيج الدهن في خلطتها ، وكانوا يشوونها على الصاج، ولا ندري الزمان الذي تحوّلت فيه إلى القلي بالزيت، وأحسب أن تتبّع مسيرة دخول زيت الذرة إلى ديارنا، وكيف بدأ استخدامه، وهل كان للجيوش الغازية الأجنبية دور في انتشارها ، قد يحلّ هذا الإشكال ! ولعل مدينة عكّا الفلسطينية الساحلية تحلّ لنا هذا الإشكال فهي مشهورة بلقبها القديم "أم الفلافل" فهذه الشهرة لا تأتي من فراغ، وهي المدينة التي وقف على أسوارها الغزاة طويلاً في حصارها ، وكأنهم كانوا يقتاتون بما يتبقّى في أهْرائهم ومستودعاتهم من البقول من طول الحصار ، والطريف أن فلافل اسم عائلة مشهورة هناك ، وما زالت عائلات عكا العريقة تدّعي أن أصل الفلافل عكاوي كنعانيّ، ثم نقله أهل صور وصيدا الذين كانوا يعملون في سواحل فلسطين إلى لبنان والشام كله، ويحكون عن فلافل العكاوي في صيدا ، وفلافل صهيون "اسم عائلة فلسطينية" في صور ، بينما يصرّ اللبنانيون أن أصل الفلافل فينيقيّ قديم !
وأما ضبط الطعمية : فبما أن الكلمة من معجم العوامّ كما يقول المعجميون المُحْدَثون فإن الشائع فيها فتح الطاء وتسكين العين، وأحسب أن كونها بضم الطاء أولى وأحسن، فنقول فيها : طُعْميّة أي مطعومة مأكولة يُغْتَذَى بها ويُقْتات.
من أين أتت كلمة الفلافل : القول الأول قول المصريين أن أصلها فرعوني؛ والقول الثاني أنها من امتزاج التوابل فيها لاسيما الفلفل الأبيض والفلفل الأسود ؛ والقول الثالث أنها آتية من تشبيه أقراصها المدوّرة بتدويرات الشعر المفلفَل الشديد الجعودة، حتى إنهم كانوا يقولون عن الشَّعْر الجعد أنه فلافل؛ وهناك رأي رابع عندي ولكن الذوقَ فيه قليل وهو أن أقراص الفلافل مأخوذة على التشبيه من أطْباء ضرع الناقة وحلْماتها وتلصق بالجلد ، وتبقى جلدة الضرع تضرب بأسفل البطن، فتتفلفل الحلمات وتسودّ من أثر الهزال، يقول جرير:
طَوَى أُمّهَاتِ الدَّرّ حتى كأنّها ** فَلافِلُ هِنْدِيّ فَهُنّ لُصُوقُ
ولكننا على كل حال لا نعلم الزمن الذي أطلق فيه على الفلافل هذا الاسم اللذيذ، ولا نجد له لفظاً لغوياً عربياً قديماً فيما وقفنا عليه !
وسبب شهرة الفلافل في طعمها المقرمش ولبّها الطريّ ، وفي اندماجها مع المكوّنات من حولها بسهولة داخل الرغيف، وفي رخص أسعارها أيضاً، وربما صار الفلافل رمزاً للرخص بكل أنواعه المحبوبة والمذمومة!
وقد كان الفلافل في الأسواق الشعبية العامرة مما يجمع أسراب الفتيان اللاهين والبنات الساربات في مطاعم الشوارع، حتى قال فيهن بيرم التونسي متصابياً: 
بأبي وروحي اللابسات خلاخلا ... الحاملات مقاطفا ومناخلا
الضاربات صدورهن تعجباً ... الآكلات مدمّساً وفلافلا
وأهل مصر يجعلون الفلافل من بقول الفول ، ويأكلون معه الفول المدمّس فيكون فطور الصباح ثقيلاً يعسر هضمه مما يجعل المرء في رهَقٍ ورغبة في الاسترخاء، وأهل الشام يصنعونه من الحمص وهو من البقول الثقيلة أيضاً لكنه أخفّ وطأةً من الفول؛ وبعضهم يخلط البقلتين معاً؛ وقد وجدتُ بعض البائعين في عربات الطريق على بعض السواحل يغشّون فيجعلون الفلافل من بقايا الخبز الناشف ، يطحنونه ويجعلون فيه بعض الفول أو الحمص، وللأمانة فقد وجدتُه ألذّ طعماً وأكثر قرمشةً !
والفلافل مهنة الفقراء أيضاً ، إذ يكفيك دكان صغير في زاوية ملحق بيتك أو تحت درج منزلك أو في عربة خشبية متحركة لتكون بائع فلافل !
ثم يتفنن الناس بمدارسهم في تشكيل الفلافل المدورة أو القلبية أو الموزية... ويتفننون في تتبيل الفلافل بأنواع الخضار كالبقدونس والكزبرة الخضراء والفلفل والبهار والملح، ولكن أكثر التفنن في شطيرته التي يحوطها الجمال الأخضر والأحمر بأنواع الخضار من البقدونس والخس والملفوف والطماطم وأنواع المخللات وعصرة الليمون أو مقليّ البطاطس والباذنجان كما في مصر ثم لطشة الشطّة الحمراء أو الفلفل الأخضر الحار أو كبيس الفلفل الحرّاق ، الذي يلفّ أدخنة أقراص الفلافل المهروسة على سطح السندويشة المدهونة بالحمص أو الطحينة !  

وأما زيت الفلافل فخيره ما كان جديداً ، وأمّا إذا قدم واحترق فإنه خطير على الصحة كما يقولون وقد يسبب السرطان، وقد بلغَنا أن بعضهم يشتري من مصانع الشيبس الزيت المدوّر ويعيد استخدامه في قلي الفلافل؛ ولكن براعة الحاجة جعلت من زيت الفلافل بنزيناً تدور به محركات السيارات في قطاع غزة ، حتى تعشّقت رائحةُ الفلافل هواءَ القطاع المحاصَر فأنعشتْه ! 

د. أسامة جمعة الأشقر