السبت، 18 يونيو 2016

النابلسي خطاط الحرم النبوي !
د. أسامة جمعة الأشقر
كانت حصّة الفقه من أحبّ الحصص إليّ في الثانوية العامة، لكون أستاذها رجلاً فريداً زاهياً بمعرفته، ولم يكن النجاح عنده سهلاً فله في كل درس معلومة واحدة ليست مدونة في الكتاب، لا يسجّلها إلا المتابِع الحريص يأتي منها الامتحان الفارق .
يفتتح حصته بتخطيط عنوان الدرس بأصبوع الطباشير ، ويلوّن الخط بزهوٍ واحترافٍ ، وبعدَ أن يتمّ الكتابةَ يتأمّلها ثم يمسحها بسرعة ولا يترك لها أثراً .
كانت لحظاتي السعيدة عندما ألتقيه في الحرم النبوي، وكان كثير التردد عليه، ولكنني قلّ أن وجدتُه في الصفوف الأولى أو في الروضة الشريفة، فكان ذلك يثير استغرابي كثيراً ، وأنا أعلم حبّه للتعبّد والصلاة في هذا الموضع المبارك .
في مرّة تجرأت على أستاذي أحمد ضياء الدين إبراهيم الخطّاط العالمي الشهير الذي لم أكن أعرف قدْره إلا بعد حينٍ - عن سر ابتعاده عن صدر المسجد !
قال بسرعته المعهودة: إنه صاحبكم عبد الله زهدي التميمي !
ولم أعرف هذا الشخص الذي يجبر أستاذي على ترك الصفوف الأولى، فسألته عن صاحبي المزعوم هذا فقال: اذهب وابحث عنه بين خطوط الجدران !
لم يثِرْني جوابُه السريع آنذاك، ولم أعرف ما يقصد إلا بعد عشر سنوات !
وجدتُ اسم عبد الله زهدي التميمي على الجدار الأمامي للحرم النبوي، وتأمّلتُ في حرفة الخط وتداويره وتسطيحاته ومَيْلاته وانحناءاته وصعوده وهبوطه ... مما جعلني أندهش لهذه العظمة في رسم هذا الحرف العربي العظيم.
واستبدّت بي الدهشة لأبحث عن هذا الرجل الذي ولد بفلسطين عام 1836م، وينحدر من سلالة تميم الداريّ الذين يتركّزون في الخليل وتوجد امتدادات لهم في القدس ونابلس ، ولكنهم ذكروا أن ولادته في نابلس ، قبل أن ينتقل إلى تركيا ويكتسب هناك مهاراته في الخط.
العجيب في الرجل أن السلطان عبد المجيد الأول اختاره وهو في نحو السابعة عشرة من عمره لكتابات الخطوط المهيبة في جدران المسجد النبوي الباقية إلى اليوم عندما أراد تعمير المسجد النبوي عند سقوط أحد قبابه، وقد أمضى زهدي نحو 13 سنة في كتابتها كما يقول أستاذي أحمد ضياء في هذه المهمة وإذا حسبنا أطوال ما كتبه بخط الثلث على جدران المسجد فسنجدها نحو 2000م  ؛ ثم ما لبثت خطوطه أن انتشرت في مكة حيث تجدها في ميزاب الكعبة المذهّب، وفي سبيل أم عباس في مصر بدعم من الخديوي إسماعيل .
ولقد حظيتُ بزيارة إلى موضع مدفَنه خلف قبة الإمام وكيع قرب قبر إمامنا محمد بن إدريس الشافعي في القرافة عند سفح المقطم قبل أعوام ؛ حيث مات هناك عام 1879م.
أنصح بمتابعة هذا الخطاط العظيم وحكاية سيرته، واكتشاف شخصيته وفنّه من الوثائق العثمانية الباقية ودار الوثائق المصرية فهذا تراث مقدسيّ عريق وَصَلَ القُدسَ بالحرمين في مكة والمدينة عبر يده الماهرة .


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق