قال ربُّنا : ( لَّيْسَ الْبِرَّ أَن
تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ
آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالْكِتَابِ
وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى
وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّآئِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ
الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ
وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاء والضَّرَّاء وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ
هُمُ الْمُتَّقُونَ )
قالت العلماء : وجوه البر في الآية جاءت
مرفوعة ثم قطع سياق الآية عما قبلها ووجّه النظر
- بالنصب - للصابرين ، فـ " الصابرين " منصوبة على الاختصاص ،
إظهارا لفضل الصبر ، وأنه ملاك كل أمر ، إذ لا وفاء بتكليف إلا مع عزيمة ، ولا عزيمة
إلا مع الصبر ، وبالصبر.
ولم يتحدث ربُّنا عن الصبر في البطش والفتك
بالأعداء ؛ كما أنه ليس حديثاً عن صبر اضطراري بسبب جائحة أو كارثة طبيعية ؛ أو
انهيار اقتصادي ، ولكنه صبر اختياري لا ينقلبون عليه بل يتعاملون معه ويعملون على
رفعه بكرامة وقوة بلا مذلة أو احتقار لأنفسهم .
وبيّن اللهُ حالات الصبر الثلاثة :
فصبر في البأساء
وصبر في الضراء
وصبر حين البأس
والبأساء شدة البؤس ،كما يقولون ليلة ليلاء
أي شديدة الظلمة ، والبؤس حالة عامة تصيب الناس بفقر وأذى كما جرى أيام الحصار
الشديد في شِعب أبي طالب و كما يجري في حصار غزة ، فصبروا ولم يقولوا : ( لن نصبر
على طعامٍ واحد ) كما فعلت اليهود من قبل ، وكما يفعل كثيرون اليوم .
والضراء شدة الضر وهو ناتج من نواتج البأساء
حيث تصيب أبدان الناس ونفوسهم بالمرض والضعف من تداعيات الجوع ومنع الدواء وإغلاق
معابر النجاة ؛ فصبروا ولم يقولوا نادمين على صبرهم : (لن تمسنا النار إلا أياماً
معدودة) كما فعلت اليهود من قبل ، وكثيرون اليوم .
ولكن فضيلة الصبر الكبيرة تكون حين البأس ،
أي حين اشتعال المعركة واتّقاد الحرب فهم لا يختلفون على أنفسهم بل يتضامّون
ويتحدون ويقاتلون كالبنيان المرصوص في جسد واحد لا يطمعون ولا يتاجرون بحربهم ولا
يرتزقون منها ؛ فصبروا ولم يقولوا : ( فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا قاعدون) كما
فعلت اليهود من قبل ، وكثيرون اليوم .
لذلك كله فقد وجب القول إن أهل غزة
بمقاتليها ومدنييها ، برجالها ونسائها ، وشيوخها وأطفالها ، ومجتمعها قد سجّلوا
لنا أصلاً من أصول البر في تطبيقاته المثالية العليا ، لذلك وجبت لهم شهادة الله :
( أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ ).
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق