كثيرون لا يحبون الذباب فهي وإن كانت رشيقة لطيفة إلا أنها مجنونة مسترذلة
مستقذرة منحطّة القدْر سيّئة السمعة ، بسبب انتهازيتها وقبح مطالبتها وإصرارها على
التدخّل في خصوصيات غيرها من جنسٍ غير جنسها ، والتصاقها بصاحبها كالصمغ الدبق ، ولو
كانت كأختها النحلة المعطاءة لأحبّها الناس وعظّموها.
وكنتُ أقول لأُصَيْحابي: إذا أردتَ خروج الذباب من دارك فافتح له
نافذة ضوء باهر فإنه يحب الضوء ويتبعه، وليس كالبعوض الذي يتوحّش في الظلمة ويسود
فيها .
والذباب لا يحب البرد لذلك لا تجده نشطاً فظّاً إلا في مواسم الصيف
، وكثيراً ما تشتاق في مواسم البرد لضرب ذبابة بمضربك البلاستيكيّ ، وكم تطرب
وتتفاخر إذا نال مضربك خمسة أو تزيد من من تلك الطيارات الهائجة.
وكان الأجداد يقولون إن الذباب لا يطيق أن يكون في دار البعوض ،
ولا يجتمعان معاً في مربع واحد صغير ، فإذا تواجها كانت الغلبة للذباب .
وجسد الذبابة مصنوع على هيئة المحارِب الجريء ، بدرع صلبة خفيفة
مرنة ، وأقدام طويلة لاصقة ، وعيون بحّارة ناظرة في كل الاتجاهات، وأجنحة شفافة
مركّبة على قاعدة متحركة ، مع قدرة تعقُّب هائلة ، وقدرة مناورة لا مثيل لها .
والذباب شجاع لا يجبن عن معركة ، ولا ينسحب أو يتولّى عن زحفٍ
متقدِّم إلا لكي يكرّ من جديد ،فإما أن تنال منه عضّة أو مصّة أو لمسة وإمان أن
يموت دون هدفه ، ولذلك لا ترى ذباب قط تموت وحدها إذ لا بدّ من قاتلٍ ، ونقطة ضعف
الذبابة هو نقطة قوتها إذ إن مخاطرتها تنتهي بموتٍ فظيع تتمزق فيه وتنسحق .
ولذلك تجد الذبان يتعب كثيراً في نهاره لذلك يستريح في ليله كله ،
وينشط مع شقوق خطوط الضياء.
وقد ضربوا المثل بقوة إبصار الذبّان إذ إن الضربات المتلاحقة لا
تكاد تصيبها ، وهي كثيرة المراوغة، عجيبة المناورة ، ذات سرعة طيّارة ، فلذلك كان
قدماء الأطباء يسحقون بدنها مع الإثمِد ويكحلون به العين ، فتتقوّى الجفون وينشط
عصب الإبصار ويقوَى.
وهو شمّام عجيب وأكثر ما يشدّه هو رائحة الشواء والدم ، فهو عنيف
بالفطرة يبحث عن المعارك والحروب ويغرز أقدامه في مجاري الدماء وينقل في أقدامه
وأجنحته الطاعون والوباء ، كما يحمل بيوض ديدان الموت التي تحلِّل أجساد الموتى في
قبورهم .
وأشدُّ ما تخشاه الذبابة أن تموت بنهيق الحمار لذلك تبتعد عنه كثيراً إلا إن كانت ذبابة صغيرة
غير مجرِّبة لم تتعلم من أسلافها وآبائها، وهناك ذبابة انتحارية يقال لها النعر
مهمتها أن تدخل أنف الحمار فتقتله لئلا يقتل بني جنسها .
ولطنين الذباب إيقاع غريب ، ولو ركّبه أحد في نوتة وحلّله لوجد فيه
لغةً منغّمة ، وأحسب أن في تحليلها تفكيكاً لشيفرات معقّدة تتناول تجارب المخاطرة
والمغامرة ، لذلك قالوا إن أحداً لا يستطيع فهم لغة الذباب إلا كان خائفاً قلقاً.
وإذا أحببت سماع صوت ذبابة فارتقِبْ يومَ سقوطها في شبكة عنكبوت
أنثى جائعة فستسمع طنينها المتوحِش يتألّم ويرفض الخضوع .
وقد جعل الله في هذه الذبابة عجباً فجعل الدنيا لا تساوي عنده جناح
بعوضة ، وجعل في جناحها المرض والشفاء منه ... أي أنه جعل فيها التعادل ( ضعف
الطالب والمطلوب) !
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق