إذا أردتَ أن
تبدأ في فهم شخص ما فانظر إلى مداخل صورته وهيئته فإنك إذا كنتَ ذا فراسة ومعرفة
بلغة الجسد فستوفر على نفسك الكثير من افتراضات التحليل لاسيما إن كانت الشخصية
مصوّرة أمامك بروحها وجسدها وتفاصيل حيويتها ؛ ومن هنا كانت الالتفاتة الأولى
لشخصية الدكتور حسن الترابي فهو شخصٌ ذو سمرة أبنوسية نحاسيّة فاتحة، لا نتوءات أو
تعوجات مستكرهة في وجهه، ترتاح روحك عند النظر إليه ، ولحية بيضاء خفيفة تغطي أسفل
وجهه الصغير المدوّر الذي يوحي لك بالذكاء المفرط والدهاء، وعمامة بيضاء يضعها
كالتاج وفق نسق منظم توحي بالزعامة والنقاء ؛ وبدنٍ معتدل لا نحول فيه ولا سمن، مع
ميل إلى الطول الذي يليق بالفرسان ، وابتسامة مرسومة على وجهه تعطيك الإذن الدائم
بالاقتراب منه حتى إذا وقعتَ على عينيه الواسعتينِ أدركتَ أن ابتسامته تلك قد
شدّتك إلى مصيدته الإيجابية ... هذا المدخل البصري كان يفتح له باباً واسعاً يدخل
منه ذوو البعد البصري في التأثّر والتقييم .
المدخل الثاني
لفهم شخصيته يتعلق بلغته التي تنشدّ لها النخبة والعامّة معاً، نفهم كيف تنشد لها
النخبة ! لكنْ أن تنشدّ لها العامّة فلأن مستواها يوحي بعمق ومعرفة هائلة تغريهم
بالاستماع إليه وإن كانوا لا يفقهون كلماته حق الفقه؛ وهي لغة واحدة في كتابته وفي
منطقه، فهو لا يتصنّع الكتابة ولا الكلام ، بل يتحدث بلغته التي استوى عليها، لغة
لا يغلب عليها العموم كما يفترض بعض خصومه بل تنتمي إلى مدرسته التوحيدية الشمولية
التي تغطي مساحات واسعة من الأفكار المختلطة، وهي لغة مطاطة محبوكة على غير
استخدام مألوف شائع، فهو يسعى دائماً لنحت مصطلحاته من بين الكلمات التي نستخدم
فيها جانباً ونغفل آخر، ثم يضعها مع منحوتات أسلوبية أخرى لتركيزها وتوضيحها في
سياق الفضاء الذي يتحدّث به، وتحتاج لغته إلى راصدٍ فنّي ناقد خبير يتناول بنيانه
اللغوي ويحلل تركيبه.
تكمن قوة
الترابي وتأثيره في أنه لم يستغرق في التنظير الفلسفي المتكاثِر، والكتابة
الأكاديمية الباردة، فهو يعتقد أنه ناضج المعرفة الفلسفية والفكرية، ويمتلك أدوات
التفكير والنظر والتنقيب، لذلك جنح إلى تطبيقات الفكر والفلسفة وتجريبها والاستعانة
بها في فهم ظواهر الدولة والمجتمع وفهم المضامين التي تتأسس عليها هذه الكتل
الكبيرة العصيّة على الترويض عبر التاريخ، ومع أن مؤلفاته عديدة إلا أن معظمها
كتبها في العشرين سنة الأخيرة من ثمانينيات حياته ، أما الأولى منها فهي في معظمها
جمعٌ لمحاضراته ومنتدياته ، وبعضها مما كتبه في خلوات سجنه التي ينتظرها ليفرغ إلى
عقله مجدداً .
فاجأ الترابي
المنظومة الفكرية الإسلامية السائدة برؤية أكثر انفتاحاً على الدين مما يرون، ولم
يَعُدّ نفسه صوفياً أو سلفياً أو عقلانياً بل رأى أن الفكر الإسلامي يعود في أصله
إلى رؤية توحيدية لا تتعلق بتحديد الكلمات وتسويرها والانغلاق عليها، بل يرى أن
التوحيد هو تحرير للذات ودخولها في منظومة جامعة تنصهر فيها الكلمات ممزوجة بالمعتقدات
الكامنة الباطنة في الوعي بالسلوك العام ؛ وبدأ الترابي يؤسس لفهمه للتوحيد في
تفسيره التوحيدي الذي نُشرت أجزاء منه قبل عقد وزيادة من رحيله .
أسّس الترابي -
بناءً على فهمه لأصول الإسلام- جسورَ التواصل مع القضايا الإشكالية في الفكر
الإسلامي بعموم مدارسه في مجال الحكم والسلطة وفي مجال الآداب والفنون ، وفي مجال
العلاقة بين الرجل والمرأة وفي مجال الحريات وفي مجال الاقتصاد... .
كان الترابي
يعلم أنه ليست متخصصاً في تفاصيل الأمور لكنه محيط بإطار مفهومي يستغرق هذه
التفاصيل التي يفهمها فقد أسس لمفهوم السلطة أو (الحاكمية) بعيداً عن منهج سيد قطب
المأزوم - في رأيه - فرأى أن السلطة لله ،
ولذلك يجب أن تكون وفق ما يريد الله من خلال نظام قيميّ يصوِّب الناس نحو القيم
وليس نحو الأحكام فتلك مرتبة أخرى تتعلق بتنظيم المجتمع وفق قوانين ، واعتقد أن
الحريّة هي مدخل التجرد لله، وأن الحريّة هي أوسع من الديمقراطية الغربية، ورفض
البابوية وسلطة الفرد أو الجماعة أو الحزب على الآخرين .
كان الترابي
ينجح على المستوى النظري لكن إصراره على التجربة التطبيقية أدخله في سلبيات
التجربة وظروفها وتعقيداتها وكثرة التداخلات فيها فكانت رؤيته تتأخر في مسيرتها
وتتعرض للكثير من المعوقات الإجبارية لكنه كان يراجع المسيرة بين الفينة والأخرى
لتصويب المسار وتصحيحه ... لكن هذه المسيرة طويلة وتسيطر عليها مفردات قوة تجتمع
وتحتشد في الطريق وتحمل رؤى أخرى من واقع التجربة عقّدت المسار التنفيذي لرؤيته.
ومن مفردات
رؤيته أن الإسلاميين بكل مدارسهم يجمعهم الإيمان بالله وبالمنهج المعبّر عنه
بالإسلام وبالتالي فإنه لم يعد يقبل مدارس التضييق المفهومية لأسباب مذهبية أو
أصولية أو جهوية ، وبدأ في أخريات عمره يؤسس لما سمّاه التيار الخالِف الذي سيخلف
المدارس الحزبية الإسلامية وطرائقها الضيقة إلى باب أوسع من الوحدة بمفهومها
الرؤيوي الذي يلتقي في الأهداف الكبرى وينسق مع مكوناته الداخلية على قاعدة الحرية
في الأدوات ما دامت القيم مستقرة متفقاً عليها .
في جانب الفنّ
أرسى الترابي مدرسة جديدة في رؤية الإسلام للفن، ألغى بموجبها عقود التناحر والرفض
، ونظّر للفن من مدخل الجمال، وبالتالي فإن الدين يلتقي مع الفن في مستوى الجمال وفي
فضاء الحرية، وعدّ الفن باباً واسعاً من أبواب الدعوة بهذا المفهوم، وباباً من
أبواب الفهم للدين أيضاً ، وأظهر بوضوح أن الفن شديد الصلة بالدين بمفهومه العام
وليس بالضرورة أن تكون صلته بالدين من خلال القيود الدينية ، فالفن إذا ابتعد عن
الجمال إلى الفتنة السياسية أو المجتمعية أو الشخصية أو الجنسية فإنه لا يكون
فنّاً حينها بل يكون انحرافاً كانحرافات السياسة والاقتصاد والعقل الجامح تعالَج
بما يتناسب مع القوانين المستهدِية بالقيم .
في جانب
الاقتصاد أسّس أيضاً لمفهوم الحرية المقيّدة برؤية تمنع التوحش وهي أن المال لله
يضعه في يد من يشاء ليؤدي حق الله في خلقه ، فالاقتصاد يجب أن يقوم على الأخلاق
وعلى تنمية المجتمع ، ولذلك كان من أولى القيم التي دعا لها الترابي بقوة هي إبطال
الربا في المصارف السودانية ، وأعلن بوضوح أن من يجعل الربا اقتصاداً فقد أعلن
الحرب على الله، ومن يجعل نفسه في حرب مع الله فهو خاسر حتماً، استهداءً بالآية
الكريمة ( فاءذنوا بحرب من الله ورسوله)... .
أما المرأة
فقد انتصر لها الترابي مبكراً وميّز أصول التعامل الإسلامي مع المرأة عن التقاليد
المجتمعية، ورفض ثقافة عزلها واعتبارها عورة في صورتها العامة و في صوتها ، وانتقد
مفهوم الاختلاط الذي أبعد المرأة عن الرجل من خلال تضخيم أخطار التواصل بين
الجنسين ، وأن هذا التشدد في الفصل أدى إلى التجاوز في الوصل مما أسس لتجاوزات
أخلاقيات حادّة؛ واعتبر أن أصل التكليف مشترك لا يميز فيه الرجل عن المرأة إلا
بقدر الاستطاعة وحدود القدرة المتصلة بالتركيب البدني والنفساني، وانتقد تعامل
الغرب مع المرأة الذي رأى فيه ردّة على أوضاع دينية تاريخية مريضة مما يجعله
سلوكاً انتقامياً ضاراً .
كان الترابي
صادقاً مع نفسه ومنهجه بعنادٍ ، وقد نال بسبب ذلك انتقادات عريضة لم ينشغل بالرد
عليها أو تفنيدها ، لأنه كان يعد الانشغال بها من عوائق الطريق الواجب الانصراف
عنها، مما جعل بعض المسائل الخلافية تكبر لدى مخالفيه دون بيانات شافية من الترابي
ساهمت بشكل أو بآخر في انصراف طائفة من الناس عنه من باب اجتناب الفتنة أو ما
يسمونه شذوذ الرأي .
امتازت مدرسة
الترابي أنها مدرسة تجريبية تتعامل وفق مرجعية منظومة القيم، حيث كان الترابي
يعتقد أن الله لم يكلفنا باختيار تحدياتنا وإنما كلفنا باختيار طريق الاستجابة
لهذه التحديات وفق منهجه العام ، واعتقد أن الحرية هي المدخل للعمل ولتقييمه
والحكم عليه أيضاً لتصحيح مساره، ورفض اعتبار الشورى ترفاً أخلاقياً، وأوجب كونَها
منهجاً أخلاقياً وسلوكياً دستورياً ؛ ودعا للتجديد من خلال الإبداع من داخل منظومة
القيم وليس الابتداع الداعي إلى تغيير ٍ
يعارض معنى الأصل .
إن قيمة
الترابي تكمن في أنه الرجل الذي جمعت مدرسته بين الرؤية والتجريب ، بين التخطيط
والتنفيذ، وهو أمر نادر في المدارس الفكرية أن يكون لها تجربة تستند إليها في
التحقق من صوابية تنظيرها ومراجعة التصورات وإعادة صياغة المنطلقات إذا كانت
التجربة تطالبك بالتوقف أو تغيير المسار أو البدء من جديد، أو حتى دفع ثمن الخطأ
في التجريب بعقوبة قاسية .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق