الاثنين، 30 أكتوبر 2017

"يا ظلام السجن خيّم" حكاية مع نشيد خالد !


د. أسامة جمعة الأشقر

كنا في ثمانينيات القرن الماضي نبحث عمّا يرفع معنوياتنا في مواجهة الظلم والاستبداد السياسي، ونردد بحماسةٍ وقوة أناشيد الثبات، وما كنا نعلم حينها أن كثيراً من الأناشيد ذات الألحان القوية الراسخة كانت ليساريين أو قوميين اجتهد المنشدون حينها بتغيير بعض كلمات فيها لتتناسب مع أفكارنا الإسلامية الثائرة ، وقد كتبتُ في الماضي عن بعض هذه الأناشيد السائرة.
كان من أقرب الأناشيد إلينا، تلك التي تصوّر حياة إخواننا السابقين من الوطنيين الإسلاميين في معتقلات الحكّام الوحشية، وكان من أشهرها الأبيات:

يا ظلامَ السّـجنِ خَيِّمْ            إنّنا نَهْـوَى الظـلامَا
ليسَ بعدَ الليل إلا         فجـرُ مجـدٍ يتَسَامى
إيـهِ يا دارَ الفخـارِ         يا مـقـرَّ المُخلِصينا
قد هَبَطْنَاكِ شَـبَاباً          لا يهـابـونَ المنونا
و تَـعَاهدنا جَـميعاً         يومَ أقسَـمْنا اليَـمِينا
لنْ نخونَ العهدَ يوماً       واتخذنا الصدقَ دِيـنَا
أيها الحراس رِفـقـاً          واسمَعوا مِنّا الكَلاما
مـتّعُـونا بِـهَـواء       منعُـهُ كَـانَ حَرَاما
لـسـتُ والله نَسـيّاً          ما تقاسِـيه بِـلادِي
فاشْـهَدَنْ يا نَجمُ إنّي        ذو وفــاءٍ وَ وِدادِ
يا رنينَ القـيدِ زِدْني         نغمةً تُشـجي فُؤادي
إنَّ في صَـوتِكَ مَعنى       للأسـى والاضطهادِ
لم أكن يومًا أثيمًا          لم أخن يومًا نظاما
إنما حبّ بلادي           في فؤادي قد أقاما
كنت أسأل حينها عن قائلها، فكان بعضهم يقول لي إنها للشاعر الفلسطيني الشهيد الثائر عبد الرحيم محمود، بينما جزم لي آخرون أنها  أقدم من ذلك فقد وردت على لسان الشهيد محمد خليل أبو جمجوم عندما أبلغه مدير سجن عكا البريطاني هو ورفيقاه عطا الزير وفؤاد حجازي بقرار الإعدام فشرعوا في ترديد النشيد يا ظلام السجن خيم وتم تنفيذ حكم الإعدام فيهم صباح الثلاثاء 17/6/1930 .
بعد حينٍ رأيت بعض الصحافيين ينسب القصيدة للسياسي السوري الأديب عبد الرحمن الشهبندر في الأربعينيات، وإلى الشاعر الحموي السوري بدر الدين حامد ... ثم تبين لي لاحقاً أنها للأخ غير الشقيق لبدر الدين حامد وهو الصحفي السوري الحموي الشهير نجيب الريس المتوفى عام 1954م وهو مناضل وسياسي قوميّ عمل ضد الاحتلال الفرنسي وتجرّع مرارات السجن والتعذيب والإهانة والطرد والنفي، وأنه قال هذه الأبيات في محبسه في سجن جزيرة أرواد مقابل مدينة طرطوس السورية أواسط العشرينيات وهو ما كشف عنه نجيب الريس نفسه في كتابه "نضال"  .
الطريف أننا اكتشفنا بعد عقود أن هذه القصيدة لحنها محمد عبد الوهاب وغنّتها فيروز وصدحت بها فرقة العاشقين قبلنا، وكنا نظنها من إنتاج مدرستنا الإسلامية "الشاملة".

الطريف أكثر أنني كنتُ ألوم القومَ على انتحالهم أعمال الآخرين، ولا أخفي أيضاً عدم إعجابي بهذه القصيدة التي كتبها الفتى العشرينيّ، وأنها قصيدة تبجّل السلبية بطعم التحدي ولا تتجه للحياة رغم حماستها المفرطة، وكنتُ أقول إن لحنها الذي ينسبونه للملحن اللبناني محمد فليفل والذي اشتهر أكثر من لحن محمد عبد الوهاب هو الذي شهرها ورفع قيمتها إضافة إلى تحوّلها إلى شعار ثوريّ فيه تحدٍّ ظاهر... بعد حين تبيّن لي أن لحن محمد فليفل نفسه مسروق من نشيد عثماني قديم يتعلق بحصار مدينة بلِفْنا البلغارية خلال الحرب العثمانية الروسية 1877-1878م ... 


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق