رغم كثرة
ما كتبه الناس عن ابن تيمية إلا أن السيرة الشعبية والاجتماعية والسياسية له قد
تدفع الدارسين لمراجعة كثير مما نسبوه له استناداً إلى ما كتبه مجردين عن فهم
البيئة التي تحيط به، والتي قد تقلب هذه المفاهيم السائدة .
جميع
اللقطات المختارة التالية منقولة من كتاب" طبقات علماء الحديث" للحافظ
أبي عبد الله محمد بن أحمد بن عبد الهادي الدمشقي الصالحي الحنبلي المتوفى عام
744هـ وهو تلميد ابن تيمية وأحدُ ملازميه :
-
اشتغل
ابن تيمية بجهاد التتار وهم تسبب بهجرة أهله من حرّان إلى دمشق عندما كان صغيراً،
وقد حرّض أمراء مصر والشام على القتال ووعظهم به وعظاً متصلاً، فكانوا يعتذرون له
عن تقاعسهم ويشرحون له سبب عجزهم.
-
قام ابن
تيمية بوظائف ميدانية خطيرة منها لقاؤه بقازان القائد العسكري للتتار بعد احتلاله
لدمشق ، وكان قازان حينها قد أظهر إسلامه لكنه لم يكفّ عن القتل والنهب، ولكنه كان
يطلب فتوى من العلماء بإباحة القتل والنهب لكون الناس من أعوان السلطان الظالم،
وواجهه قائلاً: " أنت تزعم أنك
مسلم ومعك قاض وإمام وشيخ ومؤذنون على ما بلغنا فغزوتنا، وأبوك وجدك هولاكو كانا
كافرين، وما عملا الذي عملت؛ عاهدا فوفيا، وأنت عاهدت فغدرت، وقلت فما وفيت"،
وخرج إلى مصر محرّضاً حكامها على الدفاع عن الشام من هؤلاء القتلة.
-
كانت مناظراته مع المخالفين بحضور ممثلين عن
السلطة، وكان ظهوره عليهم يسجّل رسمياً بشهادات من علماء يحضرون هذه المجالس.
-
كانت مجالسه محل احترام وتقدير من الدولة في مصر والشام ، وكان يحضر
استقبالاته الرسمية قاضي القضاة وأكابر الدولة احتفاء به حتى في ظل مرافعاته التي
يردّ فيها على مخالفيه في مسائل الصفات وكلامه في الاتحادية ومسألة الطلاق
المشهورة.
-
كان
يُسجَن أول الأمر في سجون القضاة وهو سجن قريب من السلطة والمحكمة وفي قلب البلد لفتح
المجال لمحاورة الشيخ ومراجعته في تشكيكه بقوانين الدولة في باب الأحوال الشخصية
وعقيدتها الرسمية، فقد سجن في سجن القضاة في القاهرة، ثم سجن في برج حسن في
الإسكندرية ، وكان له وضع خاص في سجنه بقلعة دمشق.
-
رغم الموقف السالب
منه فقد كان القضاة يطلبون منه تعليم أهل الحبس ما يلزمهم من أمور دينهم .
-
كان يُسمح لمن شاء بالدخول عليه والانتفاع به .
-
بتغيّر المواقف السياسية للدولة فقد كان يخرج من السجن فيستقبله السلطان
وكبار رجال الدولة، وكان يعرض عليه السلطان الانتقام من العلماء الذين تسببوا
بسجنه وكان يشاوره في قتلهم، فكان يمتنع عن ذلك ويعفو .
-
رافق الجيش المصري في غزوته للدفاع عن دمشق، وزار بيت المقدس في
طريقه، وكان لسان الجيش وصوته ومفتيه .
-
كان له مجلس إفتاء كبير بعلم السلطة ودعمها.
-
بدأت مشكلات ابن تيمية مع القضاة والفقهاء الذين رفضوا تفرده في بعض
مسائل العلم الثابتة في القوانين التي يحكمون بها في المحاكم "الشرعية" ،
ثم توسعت مشكلاته بسبب شهرته الكبيرة في أوساط الخلق.
-
كان الشيخ يرفض تدخل الدولة في العلم وحسم الخلاف الفقهي بقرارات
سلطانية فعندما تكلَّم في مسألة الحَلِف بالطَّلاق، أشار عليه بعض القُضَاة بتَرْك
الإِفتاء بها ؛ فقَبل إشارته، ثم ورد كتاب السُّلْطان بعد أيام بالمَنْع من الفتوى
عليها، ثم عاد الشيخ إلى الإِفتاء بها وقال: لا يَسَعُني كِتْمان العِلْم. وبقي
كذلك مُدَّةً إلى أن حبسوه بالقلعة خمسة أشهر وثمانية عشر يومًا، ثم أُخرج، ورجع
إلى عادته من الأشغال وتعليم العِلْم، ولم يزل كذلك إلى أن ظفروا له بجواب يتعلَّق
بمسألة شَدِّ الرِّحال إلى قبور الأنبياء والصَّالحين، كان قد أجاب به من نحو
عشرين سنة؛ فشنَّعوا عليه بسبب ذلك، وكَبُرَتِ القضية، وورد مرسوم السُّلْطان في
شعبان من سنة ستٍّ وعشرين بجَعْلِهِ في القَلْعة
-
عندما سُجن في القلعة لم يتركوه في زنزانة قذرة بل "أُخليت له
قاعة حسنة، وأجري إليها الماء، وأقام فيها ومعه أخوه يخدمه، وأقبل في هذه المُدَّة
على العِبادة والتِّلاوة وتصنيف الكتب، والردِّ على المخالفين، وكَتَبَ على تفسير
القرآن" .
-
في السجن كَتَب ابن تيمية في المسألة التي حبس بسببها مجلَّدات
عِدَّة، وظهر بعض ما كتبه واشتهر، مما يعني إصراره على رفض القرار القضائي
والسياسي بعدم فتح النقاش في هذه المسائل، فآل الأمر إلى أن مُنِعَ من الكتابة
والمطالعة، وأخرجوا ما عنده من الكُتُب، ولم يتركوا عنده دواةً ولا قلمًا ولا
ورقة، وكتب عقيب ذلك بفحمٍ يقول إن إخراج الكتب من عنده من أعظم النِّعَم. وبقي
أشهرًا على ذلك، وأقبل على التِّلاوة والعِبادة والتهجُّد حتى أتاه اليقين، فلم
يفجأ الناسَ إلا نعيُهُ، وما علموا بمرضه، وكان قد مَرِضَ عشرين يومًا.
-
كان لابن تيمية شعبية كبيرة بين الرجال والنساء، وكان الناس يعتقدون
فيه الولاية ويتبركون به، وعقدت له السلطة جنازة شبه رسمية بحضور عسكري كبير، فعندما
بلغهم موته ليلة 22 من ذي القعدة سنة 728هـ
(تأسَّف الخَلْقُ عليه، وحضر جَمْعٌ كبير، فأُذِنَ لهم في الدخول، وجلس
جماعةٌ عِنْدَه قبل الغُسْل، وقرؤوا القرآن، وتبركوا برؤيته وتقبيله، ثم انصرفوا،
وحضر جماعةٌ من النِّساء ففعلن مثل ذلك، ثم انصرفن ، واقْتُصِرَ على من يغسله
ويعين عليه في غُسْله، فلما فُرِغَ من ذلك أُخرج وقد اجتمع الناس بالقَلْعة
والطريق إلى جامع دمشق، وامتلأ الجامعُ وصحنه والكلَّاسة وباب البريد وباب
السّاعات إلى اللَّبَّادين والفوَّارة، وحضرتِ الجِنازةُ في السَّاعة الرابعة من
النَّهار أو نحو ذلك، ووُضِعَتْ في الجامع، والجُنْد يحفظونَها من الناس من شِدَّة
الزِّحام، وصُلِّي عليه أولًا بالقلعة، تقدَّم في الصَّلاة عليه الشيخ محمد بن
تَمَّام، ثم صُلِّيَ عليه بجامع دمشق عقب صلاة الظُّهر، وحُمِلَ من باب البريد،
واشتد الزِّحام، وألقى النَّاس على نعشه مناديلَهم وعمائمهم للتبرُّك، وصار النَّعش
على الرؤوس، تارة يتقدَّم وتارة يتأخَّر، وخرج النَّاس من الجامع من أبوابه كلِّها
من شِدَّة الزِّحام، وكل باب أعظم زحمةً من الآخر، ثم خرج الناس من أبواب البلد
جميعها من شدة الزِّحام، لكن كان المعظم من الأبواب الأربعة باب الفَرَج الذي
أُخرجت منه الجِنازة، ومن باب الفراديس وباب النَّصْر وباب الجابية، وعَظُمَ الأمر
بسوق الخيل، وتقدَّم في الصَّلاة عليه هناك أخوه زين الدِّين، وحُمِلَ إلى مقبرة
الصُّوفية؛ فدفن إلى جانب أخيه الإِمام شرف الدِّين رحمهما الله، وكان دَفْنُه
وقتَ العَصْر أو قبلها بيسير، وغلَّق الناس حوانيتَهم، ولم يتخلَّف عن الحضور، إلا
نَفَرٌ قليل، أو مَنْ عَجَز للزِّحام، وحضرها من الرِّجال والنِّساء أكثر من مئتي
ألف، وشرب جماعةٌ الماء الذي فَضَل من غُسْله، واقتسم جماعة بقية السِّدْر الذي
غُسل به، وقيل إن الطَّاقية التي كانت على رأسه دفع فيها خمس مئة دِرْهم، وقيل إن
الخيط الذي فيه الزئبق الذي في عنقه لأجل القَمْل دُفع فيه مئة وخمسون دِرْهمًا،
وحصل في الجِنازة ضجيجٌ وبكاء عظيم، وتضرع كثير، وكان وقتًا مشهودًا، وخُتِمَتْ له
ختم كثيرةٌ بالصَّالحية والبلد، وتردد النَّاس إلى قبره أيامًا كثيرة ليلًا
ونهارًا، ورؤيت له مناماتٌ كثيرة حَسَنَةٌ، ورثاه جماعةٌ بقصائدَ جَمّةٍ.
د. أسامة جمعة الأشقر
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق