الجمعة، 5 مايو 2017

توتة الدار !


عندما أرى شجرة التوت تستدعي نفسي خواطر قديمة تعود بي إلى مخيمي وعيشتي القديمة ، وتستحضر لي صورة وطن مكتوم في صدري ، فقد كانت آباؤنا اللاجئون يقتربون من وطنهم المسلوب بتحميل أكبر مشاهد ممكنة في صورة ملاجئهم ومخيماتهم التي طُردوا إليها، غنّى لها الشاعر الشعبي الفلسطيني الراحل أبو عرب يا توتة الدار .
أذكر أن العائلة التي تضم عائلات أصغر للأبناء تضم القطع الممنوحة لهم إلى بعضها ويجعلون هناك مساحة للزراعة شجرة توت أو جوافة أو مشمش أو كرمة عنب ، وأجلّ البيوت وأكرمها تلك التي تضم شجرة توت عملاقة دائمة الخضرة ... وكان من جيراننا الذين ينعمون بالتوت الريّس الحاج كامل المصري من صيادي الطنطورة المهجّرين ، وأرملة الحاج أبي دُمّر رحمهم الله جميعاً .
في النهارات المضيئات يجتمع النساء والبنات تحت التوتة لتقليم الملوخية التي يأتي بها الآباء بكميات كبيرة للتنشيف قبل انتهاء الموسم، أو حفر الكوسا والبذنجان وحشوها أو صناعة الكبّة، أو تحميص القهوة أو عصر البندورة الناضجة بالأيدي، وتنشغل الصبايا بإعداد السلطات وغسل الأطباق، ويتصارع الأطفال في ناحية أخرى تحت التوتة، أو يتأرجحون في تلك المراجيح المعلقة على جذع شديد فيها.
وفي المساءات المعتدلات اللطيفات تمتد الفُرُش والبُسُط وتلقى المساند والمخدات ويتسامر الرجال والنساء، وينشغل بعضهن بالتطريز أثناء المسامرة، ويقولون إن أحاديث التوتة لا تشيع لأن التوتة ساترة، وقد سترت أوراقها عورة أبينا وأمنا آدم وحواء كما تزعم كتب الإسرائيليات.

كان دخولنا إلى بيت الحاج كامل وابنه أبي مروان وكنّته أم مروان أسهل وأطيب فهم جيران كرام محبون لطفاء ندخل مع أولادهم إلى عمق الدار ونلتقط التوت الناضج وربما اعتدينا على توت أبيض يابس لم ينضج بعد إذا لم نصل إلى حبّة مستوية .
في منزل الحاجة أم دمر كانت هناك أسوار عالية ، وكانت شجرتهم أكبر وأغنى بالتوت ، وكانت مما تغري الأطفال المشاغبين باستعلاء الجدار فوق ظهور بعضنا أو رمي الأغصان بالحجارة والأخشاب وقضبان الحديد ، وكثيراً ما سقطت في رحبة دارهم فكسرت الزجاج أو أطباق الطعام أو سقطت على رأس أحدهم أو جنبه فكان ذلك مما يستدعي صياحهم والخروج علينا بعصا غليظة ، ولكن لا أذكر مرةً أنهم تمكنوا من التقاط أحدنا .


في رحلتي الأخيرة للجزائر فاجأني الصديق الغالي محمد أبو جزر بطبق من التوت وضعه بين الأصدقاء ، فننزعته من بين أيديهم، إذ ظننت أنهم لا يأكلونه بشغفٍ، ومنحتُهم حبة أو حبتين، وتذكرتُ بهذه المناسبة أمراً شبيهاً إذ تذكرت حديثاً أخرجه الخطيب البغدادي في تاريخه عن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: "رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يأكل توتاً في قصعة" وأخبرتهم بذاك الحديث الموضوع الذي يحكيه الشاميون في مسامراتهم : " كل شيء بحِشمةٍ إلا التوت" فإنه لا يؤكل باحتشام فهو أشبه بالتسالي؛ ثم لمّا رآني الصديق الشاب إسلام فقير أحبّ ذلك التوت مضى بي إلى صفوف متراصة من التوت تتدلى الحبات أمام عينيّ بالمئات منها رغم صغر حجمها فطفقت آكل منها حتى انتفخ البطن وقال قَطْني... وقد أعجبني أن التوت في معظم شوارع مدن الجزائر الساحلية فكان ذلك مما جعل صورة فلسطين تبدو لي أوضح في الجزائر التي تحب فلسطين مثلي .  

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق