السبت، 13 مايو 2017

تشوّهات يوسف زيدان في استحقار تاريخ صلاح الدين !


لم يكن هجوم يوسف زيدان على صلاح الدين جديداً لكن الجرأة في استخدام ألفاظ غير أكاديمية بل ألفاظ تنتمي إلى لغة المقاهي الوضيعة هي التي جعلت هذه التصريحات تحظى بكل هذا الاستنكاروالرفض ، فلو أن الدكتور عبّر عن رأيه في سياسات صلاح الدين بلغة موضوعية وسرَدَ أدلته لكان للناس شأنٌ آخر في التعامل مع ادعاءاته التي كنتُ أتمنى أن يضع فيها دراسته الفلسفية أو خبرته التراثية أو حكمته في التصوف العقلاني الذي يوهم به بعض متابعيه، وبتّ أشكّ حقاً في حقيقة ما يتردد عن كونه أكاديمياً أو غير ذلك، ويحتاج الأمر إلى مراجعة شهادته العليا والجهة التي منحتها له .وعلى كل حال فإن شذوذ الغرور لديه والتورمات الذهنية وهو فيما يقع فيه المثقفون المتوسّعون في الفلسفة وعلم الكلام أكثر من غيرهم إضافة إلى ضعف خبرته التاريخية ثم عدمية خبرته في العمل السياسي للنظم والأنظمة قد جعله ضحية آراء تنتمي إلى مدرسة تتقارب مع المدرسة الإسرائيلية التي تطعن في التراث العربي والإسلامي باسم الأكاديمية، ونجد أن كثيراً ممن تقاربوا مع هذه المدرسة من الشرقيين يبحثون عن إسناد إعلامي غربي يجعلهم في صدارة الأحداث فهذا مما يتلذذون به جداً .
لستُ ممن يقدِّسون الأشخاص والهيئات، وأنا متشدد في هذا الباب، بل يعلم الكثيرون من المقرّبين مني أنني أطالع سيرة صلاح الدين من زاوية سياسية اجتماعية وإدارية وأرفض تقديمه في سياق الأحلام وتحويله إلى أيقونة أو شخصية قدّيسة، وأدعو إلى التعامل مع سيرته بواقعية شديدة تستدعي السلبيات والإيجابيات لأنها ستعيننا في استلهام تجربته لاسيما أن الظرف الإقليمي والدولي الذي كان قبيل تحرير القدس شبيه إلى حد كبير بظرفنا السياسي الراهن بل كان أشد مما نحن فيه الآن ، وكنتُ أقول لهم إن نجاح صلاح الدين كان مرتبطاً إلى حد كبير برؤية سياسية تعتمد مركزية القدس في العمل السياسي باستخدام القوة العسكرية، وأن تحريرالقدس كان المشروع السياسي الذي اعتمده صلاح الدين لبسط نفوذه السياسي وتحقيق الوحدة العسكرية بين الأقاليم الشامية والمصرية والعراقية والحجازية واليمنية نظراً لأن القدس كانت مركزية في العدوان الصليبي على الأمة الإسلامية لذا فإن اتخاذ القدس نقطة ارتكاز في جذب العواطف الإسلامية المسكونة بالإحباط كان خطة ذكية من صلاح الدين وقبله نور الدين .
وبخصوص ادعاءات يوسف زيدان فإن صلاح الدين لم يقم بإبادة العائلة الفاطمية أو قطع نسلها فإن هذه العائلة كان مُلْكها يتواصل بالوراثة بين الآباء والأبناء ولم يكن شأناً عائلياً عاماً، وكان آخر خلفاء الفاطميين العاضد مريضاً شبه هالك وكانت دولته شبه منهارة بسبب النزاع الداخلي المرير بين مراكز السلطة في الإدارة والقضاء والدعوة والعسكر وتواصل الحملات الصليبية التي تستهدف مصر والشام ... بل إن صلاح الدين وقف إلى جانب العاضد وعمل وزيراً عنده كما كان عمه أسد الدين من قبل، ولم يقتل صلاحُ الدين العاضدَ ولم يقتل ذريته بل أخذ الوصاية عليهم بعد أن وثق به الخليفة الفاطمي وأذن له العاضد في القضاء على مراكز القوى المتنافرة، وكان صلاح الدين – السياسي- يرى تسلط نظام المذهبية الإسماعيلية الباطنية على السلطة وأن هذه المذهبية المقيتة هي سبب في عدم إمكانية توحيد الجغرافيات الإسلامية في مواجهة العدو الصليبي المشترك، بل إن الخصومة الفاطمية السلجوقية كانت سبباً في سرعة اجتياح الصليبيين لبلاد الشام ؛ وأن الخلافة الإسماعيلية في مصر كانت تضعف رمزية المسلمين السياسية المتمثلة بخلافة واحدة يأتمرون بأمرها ويسيرون على برنامجها، وكان يجب توحيد السيادة ولو رمزياً لتحقيق الاستقرار السياسي وإيقاف حالة الاستقطاب السياسي والمذهبي في الظرف البالغ السوء، ويُحسب لصلاح الدين أنه استطاع إنهاء الحكم الفاطمي بسلاسة سياسية رغم اعتراض الخليفة العباسي في بغداد وقيادته السياسية في دمشق وتحديداً نور الدين زنكي على طريقته المهادِنة في التعاطي مع الحكم الفاطمي.
بعد إحكام نفوذ صلاح الدين على السلطة في مصر كان لابد له من إنهاء مظاهر التمزيق السياسي المتمثل في الدعاية الباطنية ومراكز قوتها المعنوية والمادية وفتح المجال لشريعة الأمة السائدة في تمكين نفسها بعد حرمان قاسٍ لنحو قرنين من الزمان في تدريس العلوم الشرعية في مصر التي لم يستطع الفاطميون تحويلها إلى مذهبهم طوال هذه المدة؛ وإرجاع مصر إلى حظيرة الخلافة العباسية المعبرة عن وحدة الأمة، وفي هذه المسألة حديث طويل تكفي الإشارة إلى عناوينه هنا .
وفي مسألة تدمير دار الحكمة التي أنشأها الحاكم بأمر الله فهي واحدة من الافتراءات التي ساقها زيدان دون تحقيق أو بيان مفصل فهذه المكتبة كانت عرضة للنهب والسرقة من قيادات نافذة في السلطة الفاطمية مرات عديدة لأسباب ثقافية ومذهبية وسياسية ومالية أيضاً، وقد فقدت الكثير من محتوياتها قبيل وصول صلاح الدين للسلطة في مصر، وأكبر نكباتها كانت أثناء الفتنة التي اجتاحت مصر عام 460هـ / 1068 م الذي كان من أعوام القحط والمجاعة وانتشار للأوبئة الطاعونية على خلفية الخلاف على أرزاق العسكر بين الجنود السودانيين والصعايدة والجنود الأتراك، فأغار الضباط الأتراك على الدار وأتلفوا كتبها، واتخذ جنودهم المملوكون من جلود الكتب نعالا لهم، وأحرقوا المجلدات، واختفت مجموعات كبيرة.
ولا يفوتنا أن نشير إلى أن هذه المكتبة هي بمثابة الجامعة الفكرية الحاوية لمنظومة الدعوة الإسماعيلية وتعاليمها وفلسفاتها وأقاصيصها الأسطورية ومدوّناتها الشعبية، ولذلك فإنها مركز تعبئة مضادة للحكم الجديد الذي يمثله صلاح الدين الذي كان منتمياً في ثقافته السياسية إلى ثقافة عسكرية أمنية بالأساس كانت ترى في محتويات المكتبة خطراً عظيماً على ثقافة الأمة ومرجعياتها الفكرية والسياسية لاسيما أن رموزها تحالفت مع القوات الصليبية الغازية فكان لابد من اتخاذ إجراء بتخصصات محددة في هذه المكتبة التي ظلت تعمل بعد تطهيرها من الكتب والإصدارات الممثلة للحقبة الفكرية الطائفية السياسية السابقة، وأمر صلاح الدين بتوزيع الكثير من كتبها على مكتبات كبار العلماء وكتاب الدواوين في سلطنته، كما بيعت آلاف الكتب بواسطة دلالين وسماسرة؛ وهذا الأمر شبيه بما يعتقده زيدان نفسه الذي يؤيد تصرفات السلطة السياسية الحاكمة في مصر بقيادة السيسي في تعاطيه مع المدرسة الفكرية الإخوانية، مما يجعلنا مرتابين من تصريحات زيدان الذي يتحدث بازدواجية غير مفهومة ، لاسيما أن مواقفه السياسية الحادة من الفكر الآخر لا تقترب من تمكين حرية الفكر والرأي الذي يزعم أنه من أنصارها.
ولا يخفى أن لهذه المكتبة دوراً سياسياً مركزياً في الحكم الفاطمي لأنها قلب فكرهم وثقافتهم لذلك بناها الحاكم بأمر الله الفاطمي بجوار قصره الغربي، وجعل له مكاناً خاصاً فيها ورتّب لها ميزانيات هائلة، وكان لقاعة المناظرات الأهمية الأكبر في هذه الدار ولذلك كان الخليفة الفاطمي يحرص على حضورها بنفسه، وكانت المكتبة في مواسم العنف السياسي داخل منظومة الحكم الفاطمية تتعرض للإغلاق كثيراً نظراً لدورها السياسي المباشر، كما كان لإشراف داعي الدعاة عليها وهو الموكل بنشر الفكر الديني الإسماعيلي الفاطمي أثر مباشر على وظائفها التي هي الهدف الحقيقي من إنشائها.
ولا ننسى أن هناك مكتبات أكبر من هذه المكتبة ظلت موجودة قائمة لم تمس منها مكتبة القاضي الفاضل البيساني كاتب صلاح الدين التي كانت تضم أكثر من مائة ألف عنوان مما يؤكد أن الهدف من إجراء صلاح الدين لم يكن استهدافا للمعرفة والثقافة وإنما للمذهبية والتضليل، وهذا سلوك سياسي معروف في ذلك الزمان وما زال معمولاً به في الدول ذات الأنظمة العسكرية الشمولية.
وأعيد التأكيد هنا على ضرورة إعادة قراءة سيرة صلاح الدين بعقلٍ واعٍ – غير دفاعيّ أو هجوميّ - وعدم السماح للكتابات المؤدلجة فكرياً من الجانبين المؤيد والمعارض أن تسيطر على أنماط التفكير الموضوعي الحر الذي يساعدنا في قراءة التجارب التاريخية ووضع مقاربات منطقية لها .


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق