السردين
!
وأطيب
موائد السمك صينية أفراخ سمك السردين الصغيرة التي نسمّيها "البذرة"
تبهّر بالبهارات ويقطع حولها البصل وتملح وتخلط بالطماطم الطرية الطازجة، ثم تجعل
في الفرن، أو يقلى السردين المتبل في مقلاة الزيت ، فتزرد السمكة الصغيرة مرة
واحدة دون أن تسحب حسكة منها فحسكها طريّ شهي!
وإذا
كبر السردين وأصبح شبراً فإنه مثاليّ للفسيخ، تملّح جوفه المفتوح بالملح الصخري،
وتنشره على سطح المنزل ثم تخزنه في وعاء مضغوط خالٍ من الهواء ، ثم تأكله بعد حين
نيئاً أو مقليّاً ، وبعضهم يجعل أكله من شعائر أول أيام العيد الاجتماعية .
وكنت
أظن السردين كلمة حديثة العمر ، وهي أقرب ما تكون في مبناها إلى جزيرة سريدينا
الإيطالية الجنوبية في غربي البحر المتوسط جنوبي جزيرة كورسيكا ، وهكذا قالت بعض
المعاجم الحديثة، إلا أنني وجدت استخداماً قديماً لها في مصادرنا العربية فقد ذكرت
المصادر الأندلسية أن الخليفة الحكم الأندلسي أحصى كل ما يباع له بقرطبة من السمك المسمى
بالسردين المجلوب من ذلك الساحل خاصة ، وتحدث لسان الدين ابن الخطيب الغروناطي عن
سردين مدينة مرلة الأندلسية، ثم وجدت ابن بطوطة يذكر السردين في موضعين من رحلته
إلى الهند وبلاد المليبار ، وقال إن أهل تلك المناطق يطعمون دوابهم وأغنامهم منها،
وتحدث أنهم يأكلون السردين النيء المملح.
وبما
أنني وليد البحر فإن أكثره كان يأتينا أولَ الشتاء في أسراب هائلة قرب الشواطئ
الأكثر دفئاً من جوف البحر البارد تنتظرها زوارق الصيادين الخشبية بشباكهم القديمة
تحيط بها من كل جانب ، وما زلتُ أذكر كيف تُلقى منه المئات في الساحل وقرب أسواق
السمك فلا نكاد نستطيع الاقتراب منها لكثرة الذباب وشدة الروائح العفنة ؛ وأذكر أن
أمي كانت تصنع منه الفسيخ أحياناً وتكلّفني بنشره فوق شوال منسوج في أعلى سطح
المنزل بعيداً عن الظلال ، وكانت رائحته في أول التنشيف شديدة قاسية !
ولا
يتخذ الفسيخ من السردين فحسب بل يصنعونه من البوري والرنجة من أسماك البحر، ولكن
السردين هو الأشهى عندنا؛ ويمكن أن تصنعه الناس من أسماك المياه العذبة ، وما يزال
نوبة السودان ومصر يصنعونه ولهم فيه تقاليد عريقة تعود إلى حقب فرعونية قديمة
فتجدهم يسمونه "الملوحة" وهي الفسيخ الصعيدي ويصنعونه من سمك الكلابي،
ويتناولونه في شم النسيم أكثر، ومنه نوع أشد فتكاً أكلتُه في حلفا في أقصى شمال
السودان على ضفة بحيرة النوبة على الحدود مع مصر يقال له "التركين"،
وأكثر فسيخ السودان النيلي من سمك الكوارة والكاس ، وأشهاه اليوم ما تصنعه السيدة
هدى على ضفة سد جبل أولياء جنوبي الخرطوم.
وفي
تاريخنا القديم نجد أن محمد بن مروان شقيق الخليفة عبد الملك صادر بحيرة خلاط في
أرمينية للاستيلاء على إنتاجها من سمك الطِّرِّيخ الصغير الموسمي الذي يملّح
ويصدّر إلى بلدان كثيرة في العراق وفارس وجزيرة العرب .
وورد في آثار الصحابة معرفتهم بالسمك المملح المعروف
بالصّير كما في حديث المعافري المصري مع عبد الله بن عمر بن الخطاب في حضرة أم
المؤمنين زينب كما في سنن البيهقي؛ وفهمنا من هذا الأثر أنه طعام ينتشر بمصر ،
فعرفنا أنه الفسيخ ؛ ومن هذا الصير المملّح يصنعون طبق " الصَّحْناة "
وهو إِدام مطبوخ معروف في العراق أكثر؛ وقد فسّر التابعي الجليل سعيد بن جبير طعام
البحر في قوله تعالى ( أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا
لَّكُمْ ) بأنّه الصّير، كما في تفسير الإمام الجليل الطبري .